القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية (1-5) فجيعة الشيخ
لاحظ الشيخ القرضاوي بمرارة وشعور حاد بالخذلان أن من ردوا على إثارته قضية «الغزو الشيعي» المفترض لـ«المجتمعات السنية» هم أساسا مثقفون مسلمون سنّة: طارق البشري، أحمد كمال أبو المجد، فهمي هويدي، يبدو أنه كان يتوقع وقوفهم إلى جانبه. وإذ خاب توقعه، تمثّل بقول الشاعر: وإخـــوان حسبتـهـمــو دروعــــا فــكـــانـوهــــا، ولـــكــــن للأعــادي
وخلتهمـو سهـامــا صـائـبــات فكــانــوهـا، ولكــن فـي فــؤادي!هذا قبل أن يتعجب من «صمت وكالة الأبناء الإيرانية» و«تواري مراجع الشيعة إلى الخلف»، تاركين «أهل السنّة يرد بعضهم على بعض، وهم يتفرجون!». ويتفجر حنق الشيخ المصري القطري المشهور في هذا السؤال الساخط: «ألا يوجد في المجتمع الشيعي كاتب واحد ينتصر لموقفي، أي لأهل السنة، في إيران أو العراق أو لبنان أو الخليج! على حين نفر من رجال السنّة هنا وهناك- ولا سيما في مصر بلد الأزهر- من ركب جواده وامتشق سلاحه، دفاعا عن الشيعة المظاليم» (رده على أحمد كمال أبو المجد). الرجل متألم مفجوع، لا يجد تفسيرا لاعتراض بعض «رجال السنة» عليه بينما لم يكن يتوقع منهم غير النصرة في مواجهة خطر شيعي يراه أكيدا، فهل يسعنا اقتراح تفسير لهذا المسلك الذي أعيا من يسميه بعض مريديه «إمام أهل السنة» وبعض آخرين «شيخ الإسلام»؟ يبدو لنا، وهنا الملحوظة الأولى، أننا نجد العنصر التفسيري الأهم لهذه المفارقة الظاهرية في كلام الشيخ الإمام نفسه. في حوراه مع صحيفة «الشرق الأوسط» (28- -9 2008) قال الشيخ متكلماً باسم المسلمين السنّة: «ونحن أهل السنة نعتبر أننا الأمة الإسلامية لأننا تسعة أعشار الأمة». الأرجح أن نسبة المسلمين السنة أقل من ذلك (أربعة أخماس حسب طارق البشري)، لكن أليس لاعتراض المثقفين المشار إليهم على «الفاشِيَة» التي أفشاها كلام الشيخ، بعبارة البشري أيضا، صلة بكون السنة هم أكثرية «الأمة» أو «مادتها»؟ أعني أن شعور المسلم السني العام بأنه ينتمي إلى أكثرية المسلمين (أو «الأمة») من ناحية، وأنه يتماهى مع الإسلام كدين بيسر تام من ناحية ثانية، وأنه وريث شرعي للتاريخ الإسلامي من ناحية أخيرة (تماهٍ ميسور مع الإسلام كـ«أمة» وكدين وكتاريخ)، هو ما يصونه من إمكان التصرف بالطريقة التي كان يأملها منه الشيخ القرضاوي. وهي طريقة منفعلة محتقنة، تقترن عادة بأقليات تشعر أنها مهددة، وتتناقض أولا مع قوله إننا «نحن أهل السنة الأمة الإسلامية». فـ«الأمة»، ولأنها كذلك، إطار للتعدد والاختلاف، يتعذر توحدها بالسهولة التي قد تتوحد بها طائفة تجتهد لطرد الاختلاف خارجها. ومن المرجح فيما نرى أن أبا المجد وهويدي والبشري يتحفظون على كلام القرضاوي لأنهم يصدرون عن هذا الشعور السني، فيما يفكر الشيخ بـ«الأمة» كطائفة تستنفر ضد «خطر» قال هو نفسه إن من غير المحتمل لحصيلته أن تتجاوز مئات أو ألوفا من المتحولين. لكن، إن كان الأمر كذلك، فلماذا فات على الشيخ؟ ولمَ تكلم كأنه ممثل لطائفة لا كناطق باسم «الأمة» أو «مرشد» لها، على ما تمنى لنفسه في حواره مع جريدة «المصري اليوم» (8 و9- 9- 2008)؟ للأمر فيما نرى صلة بخصائص مفهوم الأمة في تفكير الشيخ القرضاوي، لكن لندل بملاحظتنا الثانية أولا، لأنها ستساعد على توضيح الخصائص هذه. تتصل الملحوظة الثانية بواقع أن المثقفين «السنّة» الذين تحفظوا على كلام القرضاوي هم من أصول قومية عربية، أو ممن يصدرون عن مفهوم استيعابي للأمة يجعل منهم في آن وطنيين مصريين وقوميين عربا و«أممين إسلاميين» إن صح التعبير؛ وهم ينزعون بالتالي نحو تصور تركيبي للأمة يعرّفها بلغة أكثر سياسية وتاريخية، ويتمحور حول التمايز عن الغرب الاستعماري ومواجهته، إسرائيل بخاصة، الأمر الذي يضع «حزب الله» (أهم قوى المقاومة الوطنية الضاربة القليلة التي يملكها العرب و(..) الداعم لحركة المقاومة الفلسطينية السنية) «البشري» و«النظام الوطني في إيران المناوئ للعدوان الأميركي الإسرائيلي» «البشري أيضا»، يضعهما في قلب «الأمة». وتفجير المسألة الآن هو نيل من «وحدة الأمة» هذه التي ينبغي أن تبقى جبهتها «كالبنيان المرصوص» في وجه «الحملة على الإسلام والمسلمين» من قبل أعداء يحوزون أسلحة «أمضى من أسلحة المسلمين مجتمعين فكيف إذا تفرقوا» «أبو المجد». و«إثارة الشقاق والفرقة بين الشيعية والسنة» هو «ما سيؤدي تلقائيا إلى تراجع أولوية الصراع ضد إسرائيل وتهيئة الأجواء لتوجيه الضربة العسكرية الأميركية ضد إيران»... «هويدي». في المجمل، ينحاز المثقفون الثلاثة إلى تصور للأمة يقلل من شأن التمايزات القومية والمذهبية لمصلحة وحدتها في المواجهة مع الغرب. الشيخ بالمقابل من أصول إخوانية «اصطبغ تكوينه بعمق بالخصومة الإخوانية العنيفة مع النظام الناصري»، و«أمته» إسلامية سنية، وسنيته ذات توجه فقهي غالب، استبطنت اعتقادا إسلاميا «أرثوذكسيا» معاديا لـ«الروافض»، مبدّعا للشيعة، ومؤسسا على ذهنية الفرقة الناجية التي استطاع الشيخ أن يتكلم عنها في تصريحاته الأخيرة دون أن يرف له جفن. ومقصده الأرجح من استحضار حديث «الفرقة الناجية» هو استثارة استنفار سني ضد الشيعة ومنحه عمقا مقدسا وخلاصيا. وفي أمة القرضاوي يتغلب العداء الثقافي للغرب على العداء السياسي له أو يبطنه ويعطيه دلالة مختلفة عن العداء القومي للغرب. فهي أمة متمركزة حول «الشريعة»، بحيث إن الابتعاد عن الشريعة هو ما يمثل عدوانا عليها. وقد لا يكون تلميح البشري إلى كمون «موقف بعض دول المنطقة التي اعتادت أن تنطلق باسم الإسلام والسنّة واعتادت مناصرة السياسة الأميركية المناصرة للموقف الإسرائيلي» قد لا يكون منصفا لمواقف الشيخ الشخصية، إلا أنه لا شك في أن المفهوم القرضاوي للأمة يقلل من شأن القضايا القومية والوطنية التي يوليها منتقدوه «السنة» جل اهتمامهم، فضلا عن أنه مفهوم يجمعه، كما لاحظ البشري نفسه، مع «من عرفوا بالغلو والدعوة إلى العنف» (يعني على الأرجح تنظيمات جهادية من صنف «القاعدة»...). * كاتب سوري