البلد «ضاجٌّ» بالندوات الانتخابية والجميع يتكلم عن الوطن والرؤية المستقبلية له، وفي نفس الوقت يمارس أفعالا تنحر الوطن من الوريد إلى الوريد، وكما كتبنا سابقا محذرين مما يفعله التعصب العرقي (القبلي) من دمار للكويت، فإن ما يحدث على الوجه الآخر لنحره هو التعصب الطائفي المذهبي، وهو أيضا على أشده، وفي أوج استنفاره وتحريضه لأبناء المجتمع في هذا الموسم الانتخابي.
جميع من يحمل الطائفية بأجندتها ومظهرها الأصوليين يتحدثون عن وطن بهوية إسلامية ورؤية شرعية، ولكن أي رؤية؟ هل هي ما يراه محمد هايف أو السيد المهري، أو ما يفكر فيه أحمد لاري أو مبارك البذالي؟! بالطبع لكل منهم رؤية ومنظور لوطن بهوية إسلامية لكن بصورة مختلفة عن الآخر... وحتى داخل الطائفة الواحدة هناك عدة رؤى مستمدة من اختلاف المشاريع الأصولية ومددها من الأسانيد والاجتهادات الفقهية. وبعد تشكيل القوائم الطائفية خصوصا في الدوائر الثلاث الأولى سواء كانت سنية أو شيعية، فإن شدة الاستقطاب المذهبي ارتفعت حدتها، ويصاحبها موجة تحفيز لعدم مقاطعة الاقتراع، ويقوم البعض على ترويجها في تلك الدوائر من خلال تحذير الناس وإثارة عصبيتهم بمقولة مفادها: إن عدم تصويتك سيجعل مرشحي الطائفة الأخرى يفوزون في دائرتنا. إن تطور الحس الطائفي، الذي أصبح يتداول علنا باتهام أبناء الطائفة المنتمين إلى أخرى بأطروحات تشكك في ولائهم وإخلاصهم للوطن، بات يشكل تهديداً جديا للبلد، كما أن فشل كل محاولات تشكيل قوى سياسية جدية بوحدة وطنية تمثل كل مذاهب المجتمع، جعل أغلبية المتحمسين لعمل وطني موحد يكفرون به ويعودون إلى انتماءاتهم الطائفية، والسبب الجوهري لهذه الحالة المؤسفة، هو إدخال «الدين في السياسة»... وهو العامل المشترك المسبب لأغلب عللنا السياسية. فالعصبيات العرقية والطائفية كلها استثيرت باسم الدين من خلال المظاهر بدءا بتقصير الثوب وإطلاق اللحى التي تعطي هيبة مصطنعة وأغلبية مفروضة بتفويض سماوي يخدع الأغلبية من كبار السن والنساء والبسطاء، فساد أصحابها وعاثوا في ديمقراطيتنا والحياة البرلمانية تخريبا وانتهاكا لحرياتنا، واجتروا من الفتاوى ما يريدون وأخفوا ما لا يرغبون، وأباحوا وتاجروا بما يشتهون! ورغم ما حدث في البلد من فرز طائفي وصل إلى معظم مواقعنا الوطنية، ويسري فيها كالنار في الهشيم، ونجني بسببه المظالم التي ستؤثر على مستقبله، فإن الناس مازالت تنظر حولها ولا تتفكر في نتائج ما يجري، ومازالت تتخذ نفس خياراتها السابقة، معتقدة أنها المنتصرة في النهاية، وأنها هي التي ستفرض على الآخرين معتقداتها وطريقتها في إدارة شؤون الوطن وأسلوب الحياة، إما بحسابات الأغلبية العددية، وإما باعتقاد الطرف الآخر بأن مشروعا إقليمياً كبيرا سينتصر في المنطقة ويفرض شروطه على الجميع، ولكن الطرفين لا يعلمان أن حساباتهما خاطئة وخاسرة، فهذا البلد لا يستطيع أن يغلب فيه طرف الآخر ويستمر، بل إن خياره الوحيد هو التوافق والتراضي... ودون ذلك فإنه الدمار والخراب... لا قدر الله. الكثيرون، وأنا منهم، يدركون أن الخيار الأمثل على الأرض حاليا، والمجرب بنجاح باهر عالمياً، هو العلمانية التي تضمن مساواة الجميع أمام القانون، وتحفظ لهم حرية المعتقد والعبادة، ولا تتحرج من تصنيف الدولة كبلد ذي صبغة إسلامية، وهو في الواقع أحد أوجه الدستور الكويتي المدني، ولكنه يحتاج لبعض التشريعات التي تكرس ذلك، وأغلبية برلمانية يختارها الناخبون في مجلس الأمة، وهو ما سيتحقق دون معاناة إذا توافر لدى الأغلبية من جميع الطوائف العقل المنفتح للتعلم من خلاصة تجارب البشرية. فعلينا أن نجنب أنفسنا عناء مزيد من هذه التجربة المريرة بعد أكثر من ثلاثة عقود من سيادة الفكر الديني الأصولي على الكويت ونتساءل: إلى أين وصلنا؟ وماذا جنينا؟ وما خسائرنا؟ يا ناخبينا فكروا في ذلك ملياً... وجنبوا أنفسكم تجارب مضنية وخسائر فادحة، إذا ما استمر هذا الفكر متسيدا في الكويت. إن التاريخ والأحداث تقول إن «العلمنة» هي قدر المجتمعات المتنوعة في الأعراق والديانات والمذاهب... وتلك المجتمعات تكون دائما هي الأقدر على الإبداع والتميز، وهي الأكثر أمانا ورخاء... فبالله عليكم «علْمِنُوه» خشية أن تفقدوه. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
عَلْمِنُوه ... خشية أن تفقدوه
02-05-2009