أجبت في المقال السابق عن سؤال مفاده: هل يصنع الاقتصاد السياسة؟ وانتهيت إلى النقاش العميق الدائر حاليا حول علاقة الديمقراطية بالتنمية، التي تختلف بشأنها الآراء. فهناك من يعتقد في وجود تنافر وتضارب بين الديمقراطية والتنمية، لأسباب اقتصادية وسياسية، نظرا لأن النمو يحتاج إلى وفورات مالية تتاح للمستثمرين بما يمكنهم من إقامة مشروعات تنهض بعملية التنمية. لكن هذه الوفورات من الممكن أن تذهب إلى الاستهلاك وليس إلى الاستثمار، وهنا يصبح الطريق الوحيد أمام زيادة الفوائض المالية هو تقليل الإنفاق الاستهلاكي، وتعجز الأنظمة الديمقراطية عن فرض خطوة من هذا القبيل، لأن المستهلكين في النهاية ناخبون وبإمكانهم أن يعاقبوا الساسة، الذين طالبوهم بضغط الإنفاق، في أقرب فرصة تتاح لهم من خلال صناديق الانتخابات.

Ad

ومن ثم يهتم القائمون على الأمر في الأنظمة الديمقراطية بتلبية الاحتياجات القصيرة الأمد والملحة للمواطنين، وهذا توجه يضر بالاستثمار، وسياسيا فإن التنمية، من وجهة نظر هذا الفريق، في حاجة ماسة إلى الاستقرار، وفي ظل الدولة الديمقراطية يكون الباب مفتوحا أمام المؤسسات والجماعات الصغيرة لتسبب إزعاجا أو تنغيصا دائما للسلطة من خلال الضغوط التي تمارسها لتحقيق مصالحها، الأمر الذي يشيع جوا من البلبلة الاجتماعية، بما يضر بالتنمية الاقتصادية. أما في ظل التسلطية فإن المجتمعات تستقر، ومن ثم تتفاعل عملية التنمية بهدوء وثقة.

وعلى النقيض من ذلك هناك من يؤكد أن التسلطية تضر بعملية التنمية، لأنها تعطي الدولة صلاحيات كبيرة للتدخل في شؤون الأفراد، بما يمنع من قيام اقتصاد حر، يبني أساسا قويا لتنمية مستدامة، وإذا كان التذرع بأن الإنفاق على الاستهلاك يعوق التنمية، كما تقدم، فإن جزءا كبيرا من النفقات يذهب إلى قطاعات التعليم والصحة، وهي ضرورية لعملية التنمية، أو بمعنى أكثر تحديدا فإنها تشكل «استثمارا في البشر»، أي توفر الدعائم الرئيسية للتنمية، بوصف الإنسان هو صانع التنمية وهدفها في الوقت ذاته.

وفي إطار تبادل المنافع هناك من يؤكد أن التنمية الاقتصادية عامل مسهل لقيام نظم ديمقراطية، وذلك استنادا إلى عدة اعتبارات، منها أن التنمية الاقتصادية تقود إلى تغير في القيم المجتمعية يخدم التوجهات الديمقراطية. فالتنمية توفر قدرة على قيام عملية تعليمية شاملة، وتعميق التعليم يجذر في عقول المواطنين ونفوسهم قيم التسامح والاعتدال والعقلانية واحترام الآخر. كما أن التنمية الاقتصادية تؤدي إلى انتعاش الدخل القومي بما يحقق «الأمن الاقتصادي» للمواطنين، ويحد من «الصراع الطبقي» بينهم بما يمكنهم من تكريس وقت أطول لبلورة رؤية سياسية ذاتية. وتبرهن تجربة بعض دول العالم الثالث على صحة هذا الرأي إلى حد كبير، فانشغال الناس بتحصيل ما يقيم أودهم، في الدول التي تحقق معدلات نمو منخفضة، يجعل العمل العام بالنسبة إليهم ترفا لا يقدرون عليه، واحتكار السلطة الحاكمة في بعض الدول لمقدرات الثروة وتوزيعها حسب أهوائها يجعل مواطنيها يتحولون إلى مجرد رعايا لا مواطنين. وغياب المواطنة يعني في النهاية غياب الرافد الأساسي، الذي يغذي الديمقراطية ويحافظ عليها.

وتساهم التنمية الاقتصادية كذلك في اعتدال موقف الطبقات الدنيا من الشرائح الاقتصادية-الاجتماعية العليا، بما يجعل الأخيرة تطمئن إلى أن الشرائح الدنيا لا تشكل خطرا عليها، وأنها تستحق ممارسة الحقوق السياسية ونيل نصيبها من القوة في المجتمع. كما أن الوفورات المالية التي تحققها التنمية تزيد من وجود الطبقة الوسطى، التي تضفي بدورها طابعا وسطيا على التنافس أو الاختلاف السياسي عن طريق مساندة الأحزاب الديمقراطية والمعتدلة والتخلي عن الجماعات الراديكالية سواء كانت يسارية أو يمينية. وتوافر الثروات المالية، أو على الأقل بلوغ حد الكفاية، يوسع هامش الاختيارات أمام الطبقة العاملة والمهمشين، بحيث يصبح بإمكانهم أن يستخدموا وسائل ضغط سلمية للحصول على حقوقهم ولا ينحدرون إلى التطرف السياسي. وفي المقابل فإن هذا يقلل من احتياج السلطات الحاكمة إلى استخدام «البطش» في مواجهة أي احتجاج من أجل الحفاظ على درجة مناسبة من الاستقرار.

علاوة على ذلك فإن التنمية الاقتصادية تتيح فرصا كبيرة لقيام العديد من الهيئات الاجتماعية التطوعية المستقلة «مؤسسات المجتمع المدني» التي لا تكتفي فقط في بعض الأحيان بممارسة دور رقابي غير رسمي على أداء الحكومة، بل تشجع على قيام مشاركة سياسية، وتعمل جاهدة على إيجاد رأي عام يتمتع بدرجة مناسبة من الوعي والمهارات السياسية اللازمة لقيام نظام حكم ديمقراطي.

وقد أعطى الباحث الأميركي الراحل صمويل هنتغنتون هذا التصور بعدا عمليا في كتابه «الموجة الثالثة للديمقراطية»، حيث قال إن متابعة التحولات الديمقراطية في العالم خلال الفترة من 1974 إلى 1990 أظهرت أن المناطق التي شهدت مثل هذه التحولات قد حققت معدلات تنمية اقتصادية فوق المتوسط، وخرج من ذلك بنتيجة مفادها أن الفقر يمثل عقبة كأداء أمام التطور الديمقراطي، وأن تعزيز الديمقراطية يعتمد على تحسين مستوى التنمية الاقتصادية، وأن العقبات التي تقف في وجه التنمية، هي عقبات في طريق الديمقراطية. وإذا كانت تجارب التحول في دول جنوب شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان تشير إلى أن التحرر الاقتصادي يسبق الانفتاح السياسي، فإن تجارب دول أوروبا الشرقية بعد انهيار نظمها الشيوعية يبين أن الاثنين يمضيان معا.

كما أن خبرة العالم الثالث في تحوله التدريجي نحو الديمقراطية تبرهن على أنه ليست هناك شروط مسبقة لهذا التحول، ومن ثم لا ينهض البحث عن الأسباب التي تقود إلى الديمقراطية، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية وثقافية ونفسية أو ترتبط بعوامل خارجية، ببناء قانون عام للتحول الديمقراطي.

ومن أجل حل هذا الاختلاف فك البعض التلازم بين النمو الاقتصادي والديمقراطية، وهو اتجاه مهم وضروري لفهم العلاقة بين الأمرين، وهو ما سنتناوله في المقال القادم إن شاء الله.

* كاتب وباحث مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء