التفاصلية والعلمانية ونقد الشأن الإسلامي
يفضل الإسلاميون أن يروا كل نقد للشأن الإسلامي مندرجاً في معركة أو مؤامرة ضد الإسلام، تتسلسل حلقاتها منذ قرنين، بل منذ الحروب الصليبية. وقلما يميزون بين «نقد دستوري» للشأن الإسلامي، تحركه اعتبارات وطنية أو اجتماعية أو أخلاقية أو معرفية، وبين نقد مطلق أو تفاصلي، لابد له أن يستنفر أساساً دينياً من نوع ما.
ثمة ضربان عريضان من النقاش النقدي حول الإسلام في العقدين الأخيرين. ضرب أول، مطلق، يضع نقده في سياق مواجهة مع الإسلام، لا يغيب عن أفقها إلحاق هزيمة حاسمة ونهائية به. وضرب آخر، علماني، ينتقد تنظيمات الإسلام العقلية والسياسية والاجتماعية والثقافية، لكنه غير معني بمعركة فاصلة أو بحساب نهائي. يشيع الضرب الأول من النقد في الغرب، عند الأوساط الأشد محافظة وامبريالية ومركزية غربية، وقد يضع مواجهة الإسلام كحلقة تالية لمواجهته السابقة الناجحة للشيوعية. فيما ينتسب أكثر النقد العربي للشأن الإسلامي إلى الضرب الثاني. على أن هناك نقداً غربياً غير «تفاصلي»، إن استخدمنا تعبيراً لسيد قطب؛ وهناك بالمقابل نقد عربي ملوث بالتفاصلية، يندرج في تصور تصفية حساب نهائية مع الإسلام. لكن في حين أن أساس النقد التفاصلي للإسلام في الغرب ديني وثقافي و«حضاري»، يضع الغرب (ذا ويست) مقابل بقية العالم (ذا رست)، و«التراث اليهودي المسيحي» قبالة إسلام متماثل مع ذاته، ويندرج في تاريخ الحملات الصليبية والاستعمارية الحديثة، فإن التفاصلية المكتوبة بالعربية تفضل استنفار تاريخ ما قبل إسلامي للمنطقة، أو تدعو إلى احتلال غربي لها، وصولاً حتى إلى الدعوة لتهويدها. ورغم أننا لا نجد ممثلين محترمين لمثل هذه المواقف المتطرفة جداً، فإنها موجودة وعالية الصوت، في شبكة الإنترنت على وجه الخصوص. ولها في سورية ممثلون ليسوا نكرات تماماً. ومن جهتهم، يفضل الإسلاميون أن يروا كل نقد للشأن الإسلامي مندرجاً في معركة أو مؤامرة ضد الإسلام، تتسلسل حلقاتها منذ قرنين، بل منذ الحروب الصليبية. وقلما يميزون بين «نقد دستوري» للشأن الإسلامي، تحركه اعتبارات وطنية أو اجتماعية أو أخلاقية أو معرفية، وبين نقد مطلق أو تفاصلي، لابد له أن يستنفر أساساً دينياً من نوع ما. ولعله يمكن التمييز أيضاً بين إسلاميين تفاصليين (أو فسطاطيين أو مطلقين) وآخرين دستوريين، استناداً إلى الموقف من النقد الموجه إلى الشأن الإسلامي. فالإسلاميون التفاصليون هم من يرفضون أي نقد موجه للشأن الإسلامي، ويعادون كل فكرة غير إسلامية، بما في ذلك الديمقراطية والقومية وحقوق الإنسان.. ويحكمون بالكفر على هذه الأفكار ومعتنقيها، ويبشرون بمعركة فاصلة يتحقق فيها لـ«الإسلام» نصر حاسم ونهائي على خصومه وأعدائه مجتمعين. أما الإسلاميون النسبيون، أو الدستوريون، فهم من يرفضون الفسطاطية، ويمتنعون على التكفير ويظهرون انفتاحاً على تيارات الفكر والسياسة الأخرى. ورغم أن الإسلاميين الدستوريين ليسوا قلة، فإنهم غير متشكلين في تيار فكري أو تنظيم سياسي أو حركة اجتماعي يمكن تمييزها في أي بلد عربي. وتتبادل التفاصلية الإسلامية وقرينتها المعادية للإسلام التعزيز. فالإسلاميون التفاصليون يغذون التفاصليين المعادين للإسلام بمسارعتهم إلى تكفير العلمانيين والديمقراطيين وجميع غير الإسلاميين؛ والتفاصليون المعادون للإسلام يقوون مواقع التفاصليين الإسلاميين بإصرارهم على أن الإسلام، كيفما كان، هو المشكلة. ويتعين في هذا المقام الفصل بين التفاصلية المعادية للإسلام والعلمانية. فالعلمانية ليست دعوة تفاصلية أو جهادية أو فسطاطية. والتفاصلية المعادية للإسلام عبء على العلمانية وخصم من حسابها، وليس العكس. والموقف العلماني معني بالفصل بين الدين والدولة كأساس لحيادها بين سكان متنوعين دينياً ومذهبياً، ومنهم من هم غير مؤمنين. والموقف هذا غير معني بمحاربة الدين أو نصرة دين على آخر أو خوض معارك فاصلة من أي نوع. فإن وجد علمانيون معادون للدين أو تفاصليون، وهم موجودون بالفعل، فإن هذا لا يترتب على الموقف العلماني بحد ذاته. أما الدعوة إلى إزالة الإسلام أو أي تنويعة من تنويعات هذا الموقف فهي غريبة على العلمانية. وهي في الواقع أقرب ما تكون إلى نزعات فاشية متنحية، يحصل أن ترتبط بصورة ما أيضا بالنزعات الطائفية. وتجد التفاصلية العربية نفسها بصورة نسقية أقرب إلى تيارات يمينية وفاشية في الغرب (ولها تنويعة «يسارية» ذات منزع تسلطي أو شمولي، نسقياً). وما نريد قوله في هذا الشأن هو إن من الضروري فك الارتباط بين نقد الشأن الإسلامي وبين التفاصلية، مهما يكن سندها الفكري. نقد الشأن الإسلامي يكون عقلانياً أكثر وعلمانياً أكثر بقدر ما يكون نسبياً وتاريخياً، ومتحرراً من هوامات المعركة الفاصلة والحساب النهائي والمواجهة الحضارية. بالعكس، إن من شأن النقد التفاصلي للإسلام أن يحل عقيدة متطرفة وشبه دينية محل ما يفترض أنه يعترض عليه لأنه متطرف ومتعصب دينياً. والنقد العلماني للشأن الديني الإسلامي مدعو أكثر من غيره إلى التمايز عن النقد التفاصلي الذي يفضي حتماً إلى حاكمية معادية منهجياً للإسلام، تشكل نسخة طبق الأصل عن الحاكمية الإسلامية التي كان دعا له مفكر التفاصلية، المرحوم سيد قطب. وفي أي من صورتيها، الدينية أو المعادية للدين، الحاكمية نظام شمولي مغلق، وقد يكون فاشياً. * كاتب سوري