رُد عليه مدير تحريري!
لا يروق لي الحديث حول أن الصحافة تساهم في تأجيج الوضع السياسي وإشعاله، وهذا طبيعي كوني صحافياً بطبيعة الحال، ولإيماني المطلق بحرية الصحافة في الكتابة والنشر، وبخلاف ذلك تبقى القضية تتمحور حول المواءمة السياسية لطرح مواضيع معينة في الصحف وتضخيمها بشكل يفوق حجمها.قبل أسابيع، وبينما كانت أزمة استجواب رئيس الوزراء في أوجها، كنت جالساً في مكتب أحد النواب بمجلس الأمة وبمعيته نائبان آخران، فدار حديث حول الأوضاع السياسية في البلاد كان مثيراً خلاله اتفاق النواب الجالسين أن «الصحافة هي أساس البلاء في البلد»، أو كما قالوا «هذولا اللي قاعدين برة هم ساس البلا»، ويقصدون بـ«هذولا» الصحافيين المتجمعين في استراحة الصحافيين بالمجلس، وأنا منهم... وأحسبهم في صراحتهم بهذا الحديث، رغم كوني صحافياً، أنهم اعتبروني «واحداً من الربع» ولم يتوانوا عن قول ما في صدورهم بحكم «الميانة»... وللمرة الأولى لم أختلف مع ما سمعته منهم... لكني لا ألوم «هذولا» الصحافيين، فهم في النهاية موظفون يقومون بعملهم لمحاولة ملء صفحات الجرائد... كما لا أرى أن الصحافة هي «البلا»... فـ«البلا» في بلادنا قديم وله أسباب عدة، والصحافة هي مرآة «بلاوي» هذه الديرة.
تذكرت ما قاله هؤلاء النواب وأنا أقرأ تصريحات العديد من النواب الآخرين قبل أيام، وحديثهم حول شكل الحكومة الجديدة ومطالباتهم بإبعاد وزراء التأزيم، ونصائحهم بعدم اختيار سمو رئيس الوزراء ناصر المحمد لرئاسة الحكومة المقبلة، ومطالبات غيرهم بعودته... كل هذه التصريحات بينما سمو أمير البلاد لم يبت بعد في استقالة الحكومة بشكل رسمي، ولم يختر رئيس الوزراء الجديد! إلا أن الخافي من وراء هذه التصريحات أنها لم تأتِ من النواب من تلقاء أنفسهم، بل أتت بعد أن حاول بعض الصحافيين معرفة آرائهم في ما نسميه بالمهنة بـ«محاولة خلق أجواء سياسية» لملء صفحاتنا في اليوم التالي.جريدة «الجريدة» كانت من أولى الصحف الجديدة التي صدرت بعد قانون المطبوعات، لذلك فإننا كصحافيين برلمانيين في «الجريدة» كانت لنا الفرصة للتعرف على أجواء العمل لتغطية أخبار البرلمان في ظل وجود صحف معدودة... بينما وصل اليوم عدد الصحف اليومية إلى 15 صحيفة، بواقع ما لا يقل عن صحافيين برلمانيين اثنين لكل جريدة يذهبون بشكل يومي إلى مجلس الأمة... وهو أمر أحدث تغييراً كبيراً في أسلوب العمل بين الصحافيين في مجلس الأمة... فبينما كنا لا نجد صعوبة في بداية صدورنا في التسكع بين مكاتب النواب بحثاً عن خبر ننفرد به، بات الأمر اليوم أصعب... فوراء كل باب وكل عمود تجد صحافياً يبحث عن خبر، ولا نخفي حين نقول إن العديد من الصحافيين البرلمانيين يواجهون ضغوطاً من مديريهم في الجريدة لأخذ أخبار خاصة وملء الصفحات... فترى بعض الصحافيين يأتي إلى المجلس ليسأل كل النواب حول موضوع ما -أي موضوع- وبذلك «يصنع جواً» حول هذا الموضوع فتصبح قضية تنشرها كل الصحف في اليوم التالي على عرض صفحتها الأولى وكأنها موضوع أثاره النواب أصلاً.العديد منا يذكر مشهد رئيس التحرير في مسرحية «حامي الديار»، حين يطالب رئيس التحرير، سعد الفرج، مدير تحريره العربي الجنسية، عبدالإمام عبدالله، بوضع صورة الراقصة شوشو على الصفحة الأولى «بس تكون شوي مضطجعة»... مبيناً أن ذلك يبيع المزيد من أعداد الصحيفة مما يزيد الإعلان... والصحف اليوم، بعد 23 سنة من إنتاج «حامي الديار»، هي مرآة «بلاوي البلد» لأنها ضمن إطار السعي المستمر للبقاء... فهي تصنع أجواء سياسية حتى تملأ الصفحات وتبيع... وتثير في عناوينها أخباراً قد تكون في عالم آخر عادية جداً... إلا أن هذا هو حقها في ممارسة نشاطها بحرية وعلينا اللجوء إلى وعي القارئ لمعرفة الغث من السمين وفلترة هذه الأخبار لإعطاء كل منها حجمه الطبيعي.