Ad

النظام كان أقدم في العقدين الأخيرين من القرن السابق على حرق الأرض الاجتماعية السورية كيلا تنبت عليها منظمات سياسية، ومن هنا نتبيَّن درجة عسر تكاد تقارب الاستحالة بوجود معارضة في سورية، دع عنك أن تكون نشيطة وفعالة.

* أزمة على أزمة

لا جديد في القول إن المعارضة السورية في أزمة، لكن قد يجدي التمييز بين وجهين للأزمة هذه: وجه بنيوي مزمن، يحيل إلى الشروط السياسية والثقافية الشاقة لوجود المعارضة وعملها طوال عقود؛ ووجه حاد، أخذ شكلا متفجرا منذ أواخر العام الماضي، فبعد التئام اجتماع المجلس الوطني لائتلاف «إعلان دمشق»، كتلة المعارضة الرئيسية ومظلتها الأوسع، في مطلع الشهر الأخير من عام 2007، التقت ثلاثة عناصر تأزيم؛ أولها، اعتقال بعض نشطائها الأبرز، وقد انعقدت أول جلسة علنية لمحاكمة اثني عشر منهم في الثلاثين من شهور يوليو الفائت؛ وثانيها انقسام سياسي وايديولوجي (بين «ليبراليين» و«وطنيين» في رواية، و«معارضين» و«ممانعين» في رواية أخرى)، ترتب على نتائج الاجتماع وعلى تراجع الفاعلية العامة للمعارضة؛ وثالثها تمام استتباب الأمر للنظام بعد تقلقل خطر، ما قوض أساس الانحياز إلى سياسة تغييرية منذ تأسيسه في خريف 2005، سياسة كانت بنيت على تغير موازين القوى النسبية لغير مصلحة النظام في ذلك العام والعام الذي تلاه، بيد أن طور التأزم المتفجر هذا أخفى طورا أقدم وأكثر إزمانا وإعضالا من الأزمة ذاتها، يتمثل أساسا في عزل المنظمات السياسة عن القوى الاجتماعية منذ مطالع العهد البعثي قبل أكثر من 45 عاما، وقبل ذلك في تنظيم «كوربوراتي» (أو «رعوي محدث») للمجتمع، يفتته ويلغي «اجتماعيته» ووطنيته، وقدرته على توليد تعبيرات عامة، ويجعل من النظام ممرا حصريا للتفاعلات بين السوريين. لا مجال للتوسع في هذا الشأن هنا، نكتفي بالقول إن النقابات والمنظمات الطلابية والشبابية والنسوية مسيطر عليها بإحكام من قبل الحزب الحاكم وأجهزة الأمن، وإن الأحزاب السياسة خضعت لتدمير مديد بواحدة من وسيلتين: إما باستتباعها في «الجبهة الوطنية التقدمية» حيث تحافظ على وجودها مقابل خسارة استقلالها، أما الأحزاب التي قد تتطلع إلى لعب دور مستقل فيتكفل السجن بإلغاء وجودها ذاته. من جهة أخرى لا تجد السلطات ما يزعجها في التكوينات الأهلية من عشائر وطوائف وجماعات دينية منزوعة السياسة، هذا فوق أن من «طبائع الاستبداد» المشرقي العريقة أن تكوينات كهذه تنتعش في شروط الحجر السياسي العام. وهكذا لدينا إما منظمات حديثة فقدت صفتها الطوعية والحرة فباتت أشبه بروابط عضوية موروثة، وإما روابط موروثة صراحة يشكل وجهاؤها وأربابها «نخبا» مساعدة في السيطرة الاجتماعية مقابل مغانم مناسبة.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن النظام كان أقدم في العقدين الأخيرين من القرن السابق على حرق الأرض الاجتماعية السورية كيلا تنبت عليها منظمات سياسية، تبينّا درجة عسر تكاد تقارب الاستحالة في وجود معارضة في سورية، دع عنك أن تكون نشيطة وفعالة. ثمة معارضون في سورية رغم ذلك بفضل شجاعتهم، لكن ما يصمد بالشجاعة والعناد يبقى عرضة لأمراض البيئة القاسية، مثل السرية والانعزال والقزامة، فضلا عن الصراعات الداخلية والبينية التي لا مبالغة في القول إنها استهلكت الكثير من جهد المعارضين ووقتهم وصدقيتهم. على أن أهم وجوه الأزمة البنيوية للمعارضة السورية هو اكتهالها وقلة الوارد الشبابي إليها، فربما كان متوسط عمر المشاركين الـ165 في اجتماع المجلس الوطني لإعلان دمشق نحو خمسين عاما، أي أكبر بنحو عقد من عمر الرئيس بشار الأسد الذي يعارضون نظام حكمه. وهذه وحدها واقعة دالة على الوضع العسير للمعارضة السورية. بالمقارنة، كان أكثر المعتقلين اليساريين في ثمانينيات القرن السابق، وعددهم بالمئات، عشرينيين (وكذلك معظم المعتقلين الإسلاميين). وكان كاتب هذه السطور في العشرين حين اعتقل عام 1980، أما معتقلو الإعلان اليوم فهم مجايلونا، ومتوسط عمرهم يقترب من الخمسين أيضا.

فإن أضفنا تقادم عتاد المعارضة السياسي والفكري والتنظيمي (متوسط عمره أعلى بعدُ من متوسط أعمار الناشطين العارضين والمعتقلين)، تمثل لنا وضع مستحيل لا تفي كلمة أزمة بتعريفه.

نهتم بالشروط العامة لعمل المعارضة لأنه يحصل كثيرا في أيام الجزر الراهنة أن تسقط الشروط هذه من ثقوب الذاكرة، فلا يستبقى إلا طور أخير، طور أزمة «إعلان دمشق». وكما هو معهود في أوقات التراجع فإن التمايزات الايديولوجية تستعيد قوتها ودورها التفريقي للطيف المعارض، بينما تنزوي العناصر البرنامجية والسياسية التي يفترض أنها تقارب بين مختلفين ايديولوجيا، لكن ليس هذا وحده ما جرى خلال بضعة الشهور الأخيرة في أواسط الطيف السوري المعارض، بل كذلك أخذت الايديولوجيات المستعادة تقرأ، بمفعول رجعي، مجريات السنوات الثلاث الماضية، وذلك لإضفاء الشرعية على توجهات مستجدة أو لتزويد هذه التوجهات بنسبٍ أصيل. إن عوامل متنوعة، اجتماعية وثقافية (وبالخصوص الانتظام الرعوي المحدث للمجتمع السوري)، وصراعات على السلطة والشرعية داخل المعارضة بالذات، ربما تسهم في تفسير حقيقة أن الصراعات بين ضحايا الاستبداد تتقدم أحيانا على صراعهم المفترض ضد الاستبداد ذاته.

* كاتب ومفكر سوري