الكذبة الكبرى
ها نحن نلملم أوراق المرحلة السياسية الفاشلة التي لم تكمل عامها الأول، لنبدأ بالاستعداد لمعركة طاحنة أخرى، وها هي التجربة تثبت صحة الآراء التي تنبأت بقصر عمر هذا المجلس الطائفي الذي أدخل البلاد في تأزيم خطير وحالة من الفوضى العارمة أدت إلى الإحباط العام وخيبة الأمل والكفر بالديمقراطية.مشكلتنا أننا لا نؤمن أصلا بالديمقراطية... لا في البيت ولا المدرسة ولا الشارع ولا المجتمع ولا حتى في مجلس الأمة وهو بيتها... والمعضلة هي أننا نتوهم أننا نملك ديمقراطية حقيقية، بل نتشدق بها ونفاخر بكل غرور وعنجهية أننا ديمقراطيون، حتى اشتكت الديمقراطية منا وتبرأت، وكأني بلسان حالها يردد ما تغنت به أم كلثوم: «يقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني».
فالحكومة ترفض الاستجواب (المكفول من الدستور) وتتعسف برفضها، والنواب يستخدمون الأدوات الدستورية بشكل متعنت وطفولي، حيث أدخلوا البلد في أزمة سياسية تشله وتعطل القضايا الرئيسة والملحة كالأزمة الاقتصادية ومشاريع التنموية وحقوق المرأة الاجتماعية وقضية غير محددي الجنسية ومشكلة العمالة الهامشية؛ بل تسعى القوى الظلامية العنصرية بكل ما أوتيت من قوة لفرض حكمها الطائفي والمذهبي والقبلي على فئات المجتمع كافة، وكأننا نعيش في بلد يحكمه حزب دكتاتوري شمولي، فجل اهتمامها هو الحصول على مغانم فردية وفئوية وسيطرة مصالحها الخاصة الضيقة وقضاياها التافهة والهامشية والغوغائية التي تغلبها على مصلحة الوطن والمواطنة (كمصادرة الحريات، ومنع الكتب، ومنع الحفلات والمشاركة في استار أكاديمي، وإسقاط القروض، ومنح مكافآت وتوزيع أموال الدخل النفطي من أجل مصالح انتخابية). والعجيب في ذلك أن الحكومة تلوم من أتى بهؤلاء إلى المجلس متناسية أنها من أمنت لهم السلطة والنفوذ والمال حتى سيطرت على مقاليد الحياة الاجتماعية والتعليمية والتجارية والإعلامية إلى أن لفظنا التاريخ ليرمينا بحضن الماضي، وها هو السحر ينقلب على الساحر لتكتشف أنها كانت مخطئة في تحالفها مع قوى الظلام والتخلف (التي لا تؤمن بالوطن) ضد القوى الوطنية. فالفلسفة الديمقراطية أيها السادة لا تقتصر فقط على صندوق الاقتراع ولا تعني طغيان الأكثرية وإلغاء حقوق الأقلية العرقية أو الدينية أو الفكرية، بل تدعو إلى الإيمان بحقوق الإنسان واحترام الأقليات وأصالة الفرد وإرادته وتوسيع الحريات، ومن سخرية القدر أن يقمع الحريات من أقسموا على صون الدستور وحمايته، الذي يفرض احترام الحريات وتوسيعها، وقد تدخل الكويت موسوعة غينيس في تراجعاتها المرعبة في مجالات الحريات وحقوق والإنسان، التي كفلها الدستور الكويتي، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. في الحقيقة، لا توجد ديمقراطية حقيقية من دون ليبرالية وحرية، والليبرالية هنا وهو ما يغفل عنه الوعي العام (بسبب تشويه القوى المتطرفة لمعناها ومضمونها) تشكل أساس الديمقراطيات الحقيقية، حيث قبول الآخر واحترام آرائه ومعتقداته والعيش المشترك، وهو لا يعني بأي حال من الأحوال محاربة الدين وإلغاءه، كما تدّعي القوى الأصولية والمتطرفة زورا وبهتانا.فالديمقراطية لا يعرف معناها الراديكاليون أو القوميون أو السلطويون أحاديو التفكير الذين لا يؤمنون بحق الآخر في الاختلاف والعيش المشترك وصون الحريات ضمن حكم القانون وتكافؤ الفرص، بل باحتكارهم للحقيقة المطلقة التي تفضلهم على غيرهم.فسبب مأساتنا يكمن في أننا لانزال نعاني ديمقراطية مراهقة بل طفولية ساذجة غير عقلانية تغلب عليها الغوغاية والعشوائية، وتتفشى فيها الواسطة والمحسوبية والبيروقراطية والفساد. وما لم نفهم معنى الليبرالية ونبدأ بطرح فلسفة تنويرية تعيد إنتاج القيم التربوية والتعليمية والإعلامية لتصبح أسلوب حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا، وما لم يتم ذلك فلن نعي مضمون الديمقراطية الحقيقية وأصولها، وسنعبث بها ونضيع طريقها وسنظل «نفتش عنها يا ولدي في كل مكان»... وسنسأل عنها «موج البحر»... ونسأل «فيروز الشطآن»... ونجوب «بحاراً و بحارا»... و«تفيض دموعنا أنهارا». وبينما نصدق أكذوبة الديمقراطية الكبرى، ننكر ونجهل أننا نعيش فاشية ونازية جديدة، فالأوهام والأكاذيب تعشش في مجتمعنا، ووهم الديمقراطية أحدها. السؤال: هل سنثبت صحة نظرية الفيلسوف هيغل «أن التاريخ لا يتقدم أحيانا إلا من أسوأ أبوابه»؟