ثمة شركات أميركية كبرى بدأت فعلياً مفاوضات للتعاطي تجارياً وخدماتياً مع شركاء إيرانيين، وهناك تسريبات عديدة عن نية واشنطن لتخفيف الحظر المفروض على الاتصالات بإيران، وربما محاولة إنشاء نوع من التمثيل الدبلوماسي إذا سارت استراتيجية التفاهم بوتيرة مرضية.

Ad

ليس أسهل اليوم من إدراك عناصر الاستراتيجية التي اختارها الرئيس الأميركي باراك أوباما لحسم الملف الإيراني، لكن هذه الاستراتيجية لن يكتب لها النجاح من دون أن تصل إلى صفقة كبرى، يدفع فيها الطرفان أثماناً مؤلمة، لحسم الصراع المرير الدائر بينهما على مدى ثلاثة عقود مضت.

ست سنوات مرت على غزو الولايات المتحدة للعراق، حيث بدت الحصيلة ماثلة للعيان في أمن مزعزع ونشاط إرهابي وانقسام طائفي وخراب اقتصادي واحتمالات تفتت وقلق للجوار، واعتراف أميركي واضح، وإن كان غير معلن، بارتكاب أخطاء سياسية واستراتيجية وأخلاقية في تلك المغامرة الطائشة. وصراع فلسطيني- إسرائيلي يبلغ أوج حدته، إثر عدوان شنته الدولة العبرية على غزة، فوضع حلفاء واشنطن في المنطقة في أصعب المواقف، وهدد بعداء مقيم لداعم إسرائيل الأكبر، وهو العداء الذي قد يبحث عن وسائل مناسبة للتعبير عن نفسه بالسياسة والثقافة والسلاح.

جوار إقليمي شرق أوسطي مقتنع إلى أقصى درجة بخطل السياسات الأميركية الشرق أوسطية طوال السنوات التي حكم فيها الرئيس جورج دبليو بوش، ودول نافذة ومؤثرة في العالم موقنة بأن سنوات حكم هذا الرئيس كانت عنواناً للفشل في إدارة شؤون العالم وفرصة لتعميق سوء الفهم والاستهداف والتربص وإشاعة اليأس والأحباط من الأوضاع العالمية، خصوصاً ما يتعلق منها بشؤون المنطقة العربية.

باراك أوباما يأتي كخيار استثنائي في أوضاع تاريخية رئيساً للقطب العالمي الأوحد، فيجد الملف الإيراني على طاولته بين أسخن الملفات وأكثرها طلباً للحسم واستعصاء على التجاهل أو التخبط أو التأني، خصوصاً أن هذا الملف أفلت من عقاله الجغرافي والتاريخي؛ فبات مؤثراً في معظم أصقاع الجغرافيا الشرق أوسطية من جهة، وحاكماً لصياغة تاريخ المنطقة والتفاعلات السياسية والاستراتيجية العالمية من جهة أخرى.

أدرك أوباما وفريقه أن محاولة استعادة الحضور القيمي الأميركي في العالم وإصلاح ما خربته سياسات سلفه الخرقاء لن يتأتى من دون حل غير عسكري للأزمة الأميركية- الإيرانية، خصوصاً أن طهران دللت كثيراً على قوتها وقدرتها على إثارة المتاعب التي قد لا تحتمل لواشنطن وحلفائها، كما أظهرت عزماً لا يلين على التمركز عند ما تعتبره حقوقاً لها مهما كلفتها العواقب.

ليست الرسالة التي بعث بها أوباما إلى القيادة الإيرانية نهاية الأسبوع الماضي في مناسبة الاحتفال بالسنة الفارسية الجديدة، داعياً فيها إلى «فتح صفحة جديدة» في العلاقات بين البلدين، بداية إجراءات تفعيل الاستراتيجية المختارة، بل هي تطور محسوب ضمن عدد من الخطوات التي تم اتخاذها بالفعل، في إطار الاستراتيجية الأوبامية تجاه إيران.

تهدئة مع روسيا تقوم على قاعدة تبادل منافع واضحة؛ بحيث تتراجع موسكو تراجعاً محسوباً فيما يتعلق بسياساتها الداعمة لإيران، مقابل أن تخفف واشنطن من ضغوطها وقيودها التي تفرضها على حركة روسيا في محيطها الجغرافي.

تحرك القاهرة والرياض لمحاولة استعادة سورية من حلفها الوثيق مع إيران عبر طرح فكرة استعادة المحور المصري- السعودي- السوري، الذي حافظ على استتباب الأوضاع في المنطقة لسنوات عديدة في عقد التسعينيات من القرن الفائت. وتمركز سعودي- خليجي غير قابل للنقض عند فكرة ممانعة التمدد الإيراني خليجياً، ومحاولة تحجيم قدرة طهران على اللعب على التناقضات الخليجية.

دعم واضح لجهود مصرية للوصول إلى مصالحة فلسطينية- فلسطينية، تعقبها فترة تهدئة تمنح الإقليم فرصة لالتقاط الأنفاس، وتقلل زخم العنصر الإيراني في الصراع المحتدم، وتنزع قدرته على إثارة الشارع العربي وزعزعة الأنظمة المصنفة «معتدلة».

وفي غضون ذلك تتم تهيئة الأوضاع في لبنان عبر تسويات تضمن إبقاء الصراع الداخلي فيه عند أهدأ نقاطه، وبعدم استفزاز «حزب الله» من جهة، والضغط على سورية وإغرائها بحزمة من المكاسب المحتملة في ما يتعلق باستئناف المفاوضات حول أرضها المحتلة من جهة أخرى، يمكن أن تنخفض درجة التأثير الإيرانية في هذا الجزء الملتهب من الإقليم لدرجة كبيرة.

يترافق هذا مع محاولة واضحة لدعم فرص ما يسمى بـ «مرشح الإصلاح» مير حسين موسوي في انتخابات الرئاسة الإيرانية المقررة في يونيو المقبل؛ إذ دعيت طهران لحضور مؤتمر في شأن أفغانستان يعقد نهاية هذا الشهر، كما تجري دراسة السماح للمسؤولين الأميركيين من الدرجات الدنيا والمتوسطة بمقابلة نظراء إيرانيين من دون طلب موافقة مسبقة من الإدارة الأميركية.

صحيح أن واشنطن مازالت تبقي على دعمها للمعارضة الإيرانية المسلحة، وتحتجز الأرصدة الإيرانية، بل إنها مددت العقوبات المفروضة من قبلها على طهران لمدة عام آخر قبل أسبوع، لكن تلك الأوراق أيضاً تشهد حلحلة واضحة. فالتضييق يجري على أهم عناصر المعارضة المسلحة الإيرانية خصوصاً في العراق، وثمة شركات أميركية كبرى بدأت فعلياً مفاوضات للتعاطي تجارياً وخدماتياً مع شركاء إيرانيين، وهناك تسريبات عديدة عن نية واشنطن لتخفيف الحظر المفروض على الاتصالات بإيران، وربما محاولة إنشاء نوع من التمثيل الدبلوماسي إذا سارت استراتيجية التفاهم بوتيرة مرضية.

وبموازاة الرسالة التي وجهها أوباما للقيادة والشعب في إيران، وهي الرسالة الأولى من نوعها التي يوجهها رئيس أميركي للقيادة الإيرانية منذ قيام الثورة الإسلامية قبل نحو ثلاثين عاماً، كانت هناك رسالة أخرى من الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز إلى الشعب الإيراني، تحدث فيها عن «مكانة خاصة لإيران وشعبها في تراث الشعب اليهودي»، وهي الرسالة التي عبر فيها بيريز ضمناً عن انتقاده لنجاد، الذي «قد تكون سياساته المتشددة حائلاً دون تطوير تلك العلاقات».

ردود الفعل العالمية على رسالة أوباما المهمة، والتأييد الأوروبي الواضح كما ظهر في تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا خصوصا، ونصف الترحيب الإيراني الذي انعكس في تصريحات مسؤولين إيرانيين من الصف الثاني، ورسالة سابقة كان أرسلها أحمدي نجاد مهنئاً أوباما بالفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر الفائت، وداعياً إلى «إصلاح الأخطاء والحوار القائم على الاحترام والندية» كلها إشارات يمكن أن تدل إلى تطور مفصلي في العلاقات الأميركية- الإيرانية.

استراتيجية أوباما تجاه إيران تحظى ببعض حظوظ النجاح، الذي قد يُنضج الظروف اللازمة لعقد صفقة يمكن أن تكون قريبة. ودول وفصائل عربية عديدة تبدو وكأنها جزء من هذه الاستراتيجية وما قد يتلوها من صفقة بشكل أو آخر، والأمل أن تجد الأطراف العربية نفسها شريكاً في مغانم قد تجلبها الاستراتيجيات والصفقات، وليست قرابين أو ضحايا في معظم الأحيان ومتفرجين في أفضلها.

* كاتب مصري