إذا كنت ممَن يعتقدون أن التاريخ في معظمه هو مجرد أكاذيب ومبالغات وأساطير معلقة بذمة الشطب والاثبات أو الإلغاء والتحوير، فأنت على حق، وذلك لأن «الولد سر أبيه»، وأبوه هذا هو كذاب أشر يسمى «هيرودوتس»... وكنيته «أبو التاريخ»!

Ad

إن هذا الرجل الإغريقي العجيب، الذي عاش قبل ما يقرب من خمسة قرون من ميلاد سيدنا المسيح، كان قد شارك في انقلاب فاشل ضد السلالة الحاكمة في «هليكارناسوس»، وقد كان من حسن حظه أن ينجو من الإعدام، ولكن كان من سوء حظ العالم أن يُعاقَب بالنفي. ذلك لأنه، خلال أعوام منفاه، قد قام برحلات عديدة إلى شتى الأقطار، وسجل ما شاهده أو سمعه فيها، فكان كتابه غابة من الغرائب التي تبدو لكل ذي عقل سليم أقرب إلى الفانتازيا منها إلى الواقع!

وإذا كان لك ثأر بائت مع هذا التاريخ الذي لا تعتقد بصدقه، فإن لديك فرصة الآن لكي تأخذ ثأرك بسلاح الضحك، عند اطلاعك على هذه المقتطفات التي تضمنها الجزء الخاص بهيرودوتس من سلسلة «رحلات عظيمة» الصادرة عن دار «بنغوين»:

يتحدث أبو التاريخ... «أبو لمعة الأول» في كتاب رحلاته، عن قبيلة في بلاد الهند، يعيش أفرادها على اللحوم النيئة. ومن ضمن تقاليدهم، كما يُقال... (لاحظ هنا أن المؤرخ الأمين يسمع بدلاً من أن يرى!) انه إذا وقع رجل فريسة مرض ما، فإن على رفاقه المقربين أن يقوموا بقتله وإقامة مأدبة للمناسبة، لإيمانهم بأن لحومهم ستفسد إذا سمحوا له بالبقاء حياً، أما المرأة المريضة فلا يختلف حالها إلا في كونها تُقتل على أيدي صديقاتها المقربات.

وإذا كان من حظ أحدهم أن يعيش حتى يبلغ أرذل العمر، فإن القبيلة تغتنم وجوده «المبارك» فتقدمه كأضحية، في واحدة من مآدب قتل الرجال المرضى!

لكن هيرودوتس يطمئننا بأن هذا لا يحدث إلا نادراً، لأن أفراد القبيلة، بمعظمهم، لابد أن يصابوا بمرض أو آخر، قبل أن تتاح لهم الفرصة لكي يطعنوا في السن!

وعلى النقيض من هذه القبيلة، هناك قبيلة أخرى تتبع سلوكاً مغايراً تماماً. فهي تمتنع عن سلب حياة أي كائن مهما كان نوعه، وعليه، فإن المريض فيها يغادر أصدقاءه من تلقاء نفسه، ويذهب إلى مكان منعزل لكي يموت هناك، من دون أن يهتم أحد بمرضه أو بموته، ثم يأتي هيرودوتس إلى إثبات «حقيقة بيولوجية»، لو كان داروين قد انتبه إليها جيدا لما تردد عن إقامة سرادق للعزاء على قارعة كتاب «أصل الأنواع»!

يقول «أبو لمعة»: «جميع أبناء تلك القبائل التي ذكرتها يتناسلون في العراء مثل قطعان الماشية، ولهم جميعا لون البشرة نفسه، وهو ما يشبه كثيراً لون بشرة الأثيوبيين... و(ماء الرجل) من هؤلاء ليس (أبيض) كما هو لدى بقية الناس، بل هو (أسود) مثل بشرتهم، والشيء ذاته يمكن أن تجده لدى الأثيوبيين»!

ولعله عزف عن القول بأن دمهم أيضاً أسود، لاعتقاده بأن هذا شيء معروف ولا يحتاج إلى إثبات أو تأكيد!

هناك ماهو أدهى... فهو يتحدث عن هنود آخرين في أقصى الشمال، مهمتهم الأساسية هي استجلاب «الذهب» من الصحارى الرملية، وإلى هذا الحد يبدو الكلام معقولاً، لكنه لا يلبث أن يعرض لنا فيلما كارتونيا، إذ يقول: «في تلك الصحارى يوجد نوع من النمل ذي حجم عظيم. صحيح أن حجم النملة من هذا النوع لا يبلغ حجم الكلب، لكن المؤكد أنه لا يقل عن حجم الثعلب»!

وما مهنة هذا النمل؟ مهنته، يا سيدي هي التنقيب عن الذهب، فهو لكي يهرب من الحرارة اللافحة، يصنع لنفسه جحوراً في الرمال، فيدفع في عمله هذا أكواماً من رمل الأعماق إلى السطح، وتلك الأكوام تحتوي على كميات كبيرة من الذهب، وهي ما يسعى إليه أولئك الهنود عندما يقصدون الصحارى. ومن أجل هذا يصطحب الواحد منهم جملين لحمل الذهب، وناقة لركوبه. ومن المهم أن تكون الناقة قد أنجبت حديثا لكي تعدو بهم بسرعة شديدة تنجيهم من مطاردة النمل لهم عند العودة، وذلك بسبب حنينها إلى وليدها الصغير الذي تركته في الوطن، بينما تتخلف الجمال، غالبا نتيجة التعب، فإما أن يفترسها النمل وإما أن تموت في الطريق!

وماذا عن الأحمال؟! يبدو أن هيرودوتس قد تكفل الهنود بإيصالها على متن طائراتنا العربية التي سنأتي على ذكرها لاحقاً!

وحرصاً على الدقة يقول هيرودوتس: «لا حاجة بي الى وصف الجمل، لان اليونانيين يعرفون كيف يبدو الجمل، لكنني، مع ذلك، سأذكر شيئاً واحداً جديداً عليهم مما تمتاز به جمال هؤلاء الهنود، وهو أن لقائمتي الجمل الخلفيتين هنا: أربعة أفخاذ وأربع ركب»!

مهلاً... لقد رأى صاحبنا ما هو أعجب من ذلك. فها هو ذا يقول: «إضافة إلى كل ما وصفته عن طرق استخراج الذهب في الهند، فإن هناك أشجاراً برية تنتج نوعاً من (الصوف) هو أفضل من صوف الخروف سواء في جماله أو في نوعيته، وهو مما يستخدمه الهنود لصنع ملابسهم»!

من حسن حظ هيرودوتس أن الخرفان لا تقرأ، والا لنتفت صوفها غضباً، ولاستنفرت كبشها الأكبر لكي يعفط عفطة عظيمة في لحية هذا التاريخ وفي لحية أبيه!

لكن إذا كان هناك مسوغ لجموح خيال صاحبنا في «بلاد تركب الأفيال»، وفيها من العجائب ما يفوق أكاذيبه وصفاً، فإن الكارثة العظمى تتبدى عندما يمارس خياله هذا علينا، نحن أبناء الأرض المنبسطة والحياة البسيطة.

يصف هيرودوتس بلاد العرب بكونها المكان الوحيد الذي ينتج البخور، والمر، والقرفة، واللبان. وهذا لطف كبير منه، لو لم يترك التربيت على خدودنا ليبدأ بالصفع التالي:

«في سعي العرب الى جمع البخور، لابد لهم من حرق الميعة- وهي مادة صمغية تستخرج من شجر العَبهَر- وذلك لإطلاق سحابة من الدخان من شأنها أن تجعل (الأفاعي المجنحة تطير هاربة من فوق شجر البخور)»!

ويضيف: «والعرب يقولون- ها هو ذا مرة أخرى يسمع بدلاً من أن يرى- إن العالم كله يمكن أن يمتلئ بأسراب هذه الأفاعي ذات الأجنحة، لولا حقيقة غريبة تتعلق بطريقة تكاثرها: فبعد اتصال الذكر بالأنثى مباشرة، تطبق هذه عليه نأييها فتقتله، ولذلك فإن الجنين في (رحمها!) ينتقم لأبيه المقتول بأكل أحشائها، وهو في طريقه إلى الخروج»... فتأمل!

ما أدهشني أكثر من هراء هذا الأفاق هو أن دار «بنغوين» لم تحفل بإبداء أدنى إشارة ساخرة إلى فحش مبالغات هذا الرجل. لكن ما ملأني غيظاً هو أن مقدمة الجزء الخاص برحلات مؤرخنا الجليل «المسعودي» صاحب «مروج الذهب» قد تضمنت ما بدا لدار النشر نوعاً من طيب الثناء، عندما قالت إن المسعودي يستحق بجدارة أن يسمى «هيرودوتس العرب»!

ونحن عند المقارنة بين المسعودي الورع الدقيق المعتذر عن كل خطأ أو سهو أو نسيان، وهيرودوتس البهلوان، لا نملك أمام ذلك «الإطراء»، إلا أن نصرخ من أعماقنا: لقد شتموا شيخنا ورب الكعبة!

* شاعر عراقي

- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية