أقبغا عبد الواحد
لم يدر بخلد تاجر الرقيق عبد الواحد بن بدال أن الصبي الذي باعه يوما للملك الناصر محمد بن قلاوون سيصبح أحد أهم شخصيات العصر المملوكي وأكثرها اشتهارا بالطمع في حطام الدنيا الفانية. وقد شاء الناصر محمد أن يلحق اسم مملوكه باسم تاجره، فسماه علاء الدين أقبغا عبد الواحد وحظى أقبغا عنده حتى عينه شاد للعمائر (وزير التعمير تقريباً) فقام بوظيفته خير قيام، فأضاف إليه وظيفة الاستادارية وعينه أيضاً مقدما للمماليك « فقويت حرمته وعظمت مهابته حتى صار سائر من في بيت السلطان يخافه ويخشاه» .
قضى أقبغا حياته يكدس الأموال ويجمع الذهب والجوهر ويقتنى العقارات والأراضي غصباً تارة، وبالحيلة تارة أخرى. ومن غريب ما يحكى عن طمعه أن أحد خدامه دخل عليه وفي اصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بريق فسأله أقبغا عن هذا الخاتم، فأخذ الغافل يعظم الخاتم ويرفع من قيمته وذكر انه بأربعمائة درهم، فطلب الأمير أن يناوله إياه فأخذه وتشاغل عنه ساعة ثم قال له « والله فضيحة أن نأخذ خاتمك ولكن خذه أنت وهات ثمنه» ودفعه إليه وألزمه باحضار الأربعمائة درهم فما وسع الخادم إلا أن حمل المال إليه مرغماً. وكان لأقبغا أسلوبه الفريد المتميز في الاستيلاء على ما بيد غيره من الأمراء وأبنائهم بأبخس الأثمان. مستعيناً في ذلك بفريق عمل وصف المقريزي أفرداه بأنهم من أهل الشر، ويتزعمهم رجل يعرف بابن القاهري. وكانت مهمة هذا الفريق «تتبع أولاد الأمراء وتعرف من افتقر منهم أو أحتاج إلى شئ فلا يزالون به حتى يعطوه مالا على سبيل القرض بفائدة جزيلة إلى أجل فإذا استحق المال أعسفه في الطلب وألجأه إلى بيع ماله من الأملاك وحلها إن كانت وقفاً «. وحتى عندما أراد أقبغا أن يشيد « مدرسة» يضمن بها، على ظنه، قصراً في الجنة، لم يجد وسيلة أخرى غير تلك» الحيل» الدنيئة لتوفير الأرض اللازمة لمشروعه الأخروي. واختار أقبغا ضحاياه هذه المرة طبقا لموقع دارهم التي كانت ملاصقة لجدار الجامع الأزهر، إذ لم يجد موقعاً أفضل منه لبناء مدرسته، وشاء الحظ العاثر لورثة الأمير عز الدين أيدمر الحلي أن يقعوا في حبائل ابن القاهري الذي حسن لهم أن يقترضوا مبلغاً من المال من أقبغا عبد الواحد. وكما هي عادته أقرضهم أقبغا المال وأمهلم حتى تصرفوا فيه ثم أعسفهم في الطلب وألجأهم إلى أن أعطوه دارهم فهدمها وبني موضعها الأقبغاوية التي تقع الآن على يسار الداخل إلى الجامع الأزهر من بوابته الرئيسية المعروفة بباب المزينين. ولم يكتف علاء الدين أقبغا بغصب الأرض بل أضاف إلى ذلك أصنافاً وأنواعا من المظالم قل أن تجتمع في بناء مملوكي واحد من المنشآت التي أحاطت الشبهات بشرعية بنائها. فهو أولاً لم يشتر أي مواد بناء لمدرسته ولو طوبة واحدة، بل اختلس كل ما أحتاجته من الحجر والخشب والرخام والدهان وأصناف الآلات إما من عمائر الناس أو على سبيل الخيانة من عمائر السلطان التي كان الاشراف عليها (شد العمائر ) ضمن صلاحياته الواسعة . ثم زاد في الطنبور نغمة عندما حشر لعمل المدرسة كافة الصناع الموجودين بالقاهرة ومصر من البنائين والنجارين والمرخمين والفعلة وأرغمهم أن يعمل كل واحد منهم يوماً في كل أسبوع بغير أجرة وصار المسخرون يجدون في العمل نهارهم كله بغير أجرة ودون أي قسط من الراحة. وقد ولي أقبغا أمر الأشراف على أعمال السخرة بمدرسته ، مملوكاً « قُد من جسده» ، فجاء مناسبا لمولاه من حيث الظلم والعسف ، ولقي العمال منه مشقات لا توصف ، لأنه سامحه الله ، كان من الجبروت بحيث لم ير الناس أظلم منه ولا أعتى ولا أشد بأساً ولا أقسى قلبا ولا أكثر عنتاً « . وخشية من أقبغا أن يعتقد الناس، والمؤرخون ، أن مملوكه قد تجاوز الحد عندما عامل بالقسوة أولئك «المتطوعين» للعمل بغير أجر ، فقد حرص أن يباشر العمل بنفسه حتى عرف عنه أنه ما نزل قط إلى هذه العمارة « إلا وضرب فيها من الصناع عدة ضرباً مؤلما فيصير ذلك الضرب زيادة على عملهم بغير أجرة « . ويظهر أن صاحبنا قد استثقل أن يختلس البسط اللازمة لفرش المدرسة، أو لأنه كان من الضروري أن يحصل على بسط قد صنعت خصيصاً للمدرسة وفق مقاييس أيواناتها ولذا فأنه عمد هذه المرة إلى زبانيته فالمحوا إلى الشريف شرف الدين على بن شهاب الدين نقيب الأشراف ومحتسب القاهرة حينئذ أن أقبغا سيوليه التدريس بالمدرسة فهرع المغرر به إلى عمل بسط علي قياسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة ورشا أقبغا بها ففرشت هناك ولكن الأمير علاء الدين استنكف وحرم نقيب الاشراف حتى من متعة الجلوس على ألسته آلاف درهم التي كلف بها البسط. ولعل أقبغا أراد أن لا يدخل مالا حلالا في بناء مدرسته ولا حتى فرشها ، فكل شئ فيها بدءاً من الأرض وانتهاد بالبسط جاء عنوة وغصباً ، وهو ما حدا بمؤرخي عصره أن يصفوا المدرسة الأقبغارية بأنها « مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت للعبادات شئ البتة» .