هل اعتمدت البنوك المركزية استراتيجية للخروج؟

نشر في 12-09-2008
آخر تحديث 12-09-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت بعد مرور عام منذ بدأت الأزمة المالية العالمية، مازال أغلب البنوك المركزية الرئيسية مكشوفا على نحو غير طبيعي للقطاعات المالية الخاصة المضطربة في بلدانها. حتى الآن، كان من المنطقي اتباع استراتيجية إبقاء النظام المصرفي موصولاً بجهاز الحفاظ على الحياة والمتمثل في الائتمان قصير الأجل المضمون من قِـبَل دافعي الضرائب. ولكن في النهاية يتعين على البنوك المركزية أن توقف عمل أجهزة الإبقاء على الحياة، وإلا فسينتهي بها الحال ذاتها إلى غرفة الرعاية المركزة حين تؤدي خسائر الائتمان إلى إرباك دفاتر موازناتها.

لقد أصبحت الفكرة القائلة إن البلدان ذات الاقتصاد الأضخم على مستوى العالم لا تواجه إلا نوبة هلع قصيرة الأمد، متكلفة على نحو متزايد. فقد بات من الواضح أن الصناعة المالية، بعد فترة من معدلات الربح والنمو القياسية، تحتاج الآن للمرور بفترة من الترسيخ والتهذيب. فأصبح من الضروري أن نسمح للبنوك الضعيفة بالإفلاس أو الاندماج (مع التسديد للمودعين العاديين بالكامل عن طريق صناديق التأمين الحكومية)، وبهذا يصبح بوسع البنوك القوية أن تندمج بقدر أعظم من النشاط المتجدد.

إذا كان هذا هو التشخيص السليم للأزمة المالية، فهذا يعني أن الجهود المبذولة لإعاقة النشاط الصحي الطبيعي لن تسفر في النهاية إلا عن تفاقم المشكلة وإطالة زمنها. إن عدم السماح بالاندماج الضروري يؤدي إلى إضعاف أسواق الائتمان وليس تقويتها.

إن البنوك المركزية الكبرى بصورة خاصة، مثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، أصبحت مكشوفة الآن. حيث قدمت مجتمعة مئات المليارات من الدولارات في هيئة قروض قصيرة الأجل لكل من البنوك التقليدية و»البنوك الاستثمارية» المعقدة غير الخاضعة للتنظيمات. والعديد من البنوك المركزية الأخرى تراقب الآن الموقف بعصبية، وهي تدرك تمام الإدراك أنها قد تجد نفسها قريباً في وضع البنوك المركزية الكبرى نفسه مع استمرار الاقتصاد العالمي في التباطؤ ومع ارتفاع معدلات العجز عن سداد الديون.

لن تكون نهاية العالم أن تتعرض دفاتر موازنة البنوك المركزية لضربة كبرى. فقد حدث ذلك من قبل- أثناء أزمة التسعينيات المالية على سبيل المثال. بيد أن التاريخ يشير إلى أن إصلاح ميزانية أي بنك مركزي ليس بالمهمة المبهجة على الإطلاق. ففي مواجهة خسائر الائتمان لا يملك البنك المركزي إلا أن يجد لنفسه مخرجاً عبر التضخم، أو أن ينتظر إعادة التمويل عن طريق دافعي الضرائب. والحقيقة أن الحلين مؤلمان للغاية.

إن التضخم العنيف يتسبب في أنواع التشوهات والعجز كلها. (ولا تتصوروا أن البنوك المركزية قد استبعدت ضريبة التضخم. بل لقد شهدت معدلات التضخم في الواقع ارتفاعاً حاداً أثناء العام الماضي، الأمر الذي يسر من التصحيح الضروري للأسعار الحقيقية للمساكن). ومن ناحية أخرى سنجد أن الاستعانة بأموال الضرائب في استنقاذ المؤسسات المالية أمر نادراً ما يتم بسلاسة ولابد وأن يؤدي في النهاية إلى الإضرار باستقلال البنك المركزي.

هناك أيضاً مسألة العدل. فقد أنتج القطاع المالي أرباحاً هائلة، وبصورة خاصة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. ورغم أن حساب حجم القطاع المالي أمر عسير للغاية بسبب غموضه وتعقيده، فإن الإحصائيات الرسمية في الولايات المتحدة تشير إلى أن الشركات المالية مسؤولة عن حوالي ثلث أرباح الشركات الأميركية في عام 2006. كما أصبحت المكافآت التي تتجاوز ملايين الدولارات في وول ستريت وفي لندن من الأمور المعتادة، وهيمنت الشركات المالية على قوائم المانحين لكبار المرشحين السياسيين في انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية في عام 2008.

لماذا إذن يتعين على دافعي الضرائب العاديين أن يتحملوا فاتورة إنقاذ صناعة المال؟ لماذا لا تتحمل هذه الفاتورة صناعات السيارات أو الصلب، أو العديد من الصناعات الأخرى التي عانت دورات هبوط أثناء السنوات الأخيرة؟ تزداد قوة هذه الحجة إذا ما لجأت البنوك المركزية إلى «ضريبة التضخم»، التي يتحملها على نحو مجحف الفقراء الذين يملكون القدر الأدنى من السبل لحماية أنفسهم من ارتفاعات الأسعار التي تتسبب في تقليص قيمة مدخراتهم.

كان الاقتصادي البريطاني ويليم بيوتر قد اتهم البنوك المركزية والقائمين على وزارة المالية بوضوح بالوقوع «أسرى للتنظيمات» من جانب القطاع المالي، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة. وهو اتهام خطير، نظراً لنقاط الغموض الضخمة التي يواجهها مسؤولو وزارة المالية والبنوك المركزية. ولكن إذا ما فشل المسؤولون في تكييف أوضاعهم مع تفاقم الأزمة فلربما يبدو الاتهام الذي وجهه بيوتر إليهم أقل تطرفاً.

كيف للبنوك المركزية إذن أن تجد السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة العميقة؟ الحل الرئيسي يتلخص في تحديد الفارق بين الشركات المالية التي كان الهلع في السوق سبباً في أزمتها (وهي بالتالي أزمة مؤقتة)، وبين الشركات المالية التي تواجه مشاكل أكثر جوهرية.

بعد فترة من التوسع الهائل التي تضاعف خلالها قطاع الخدمات المالية في الحجم، أصبح بعض التخفيض في الإنفاق أمراً لازماً وطبيعياً. كانت أزمة قروض الرهن العقاري الثانوي سبباً في إحداث هبوط في بعض الخطوط التجارية الرئيسية للمؤسسات المالية، وبصورة خاصة في أسواق تداول المشتقات المربحة للغاية رغم غموضها الشديد. ولقد بات من المحتم الآن أن تشهد هذه الصناعة بعض الانكماش. ويتعين على البنوك المركزية أن تبدأ في تعزيز الاندماج، بدلاً من التوسع في الائتمان على نحو يفتقر إلى التمييز.

إن الصناعة المالية من الممكن من حيث المبدأ أن تكون أصغر حجماً بحمل كل مؤسسة على الانكماش، ولنقل بنسبة 15% على سبيل المثال. بيد أن هذا ليس بالنمط النموذجي في أي صناعة. وإذا ما أرادت صناديق الثروة السيادية أن تدخل في الشركات المتعطشة إلى رأس المال وأن تبقيها طافية على أمل استردادها لعافيتها بقوة لاحقاً، فلابد من السماح لها بذلك. ولكن يتعين عليها أن تدرك أن كبار حملة الأسهم من الأجانب في الشركات المالية ربما كانوا أقل فعالية من حملة الأسهم المحليين فيما يتصل بإقناع البنوك المركزية بتوفير خطوط ائتمانية غير مقيدة.

لقد آن الأوان لتقييم الأزمة وإدراك حقيقة واضحة مفادها أن صناعة المال تخضع الآن لتحولات جوهرية، وأنها ليست ببساطة ضحية لموجة هلع مرتبطة بالمضاربة في مقابل قروض الإسكان. ولا شك أن التنظيم الأفضل يشكل جزءاً من الحل على الأمد الأبعد، ولكنه ليس بالعلاج الشافي من كل داء. ويتعين على حملة الأسهم والسندات في الشركات المالية اليوم أن يتحملوا التكاليف الرئيسية، وإلا فلنودع أي أمل في أن يتصرفوا بقدر أعظم من المسؤولية في المستقبل.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ علوم الاقتصاد والتخطيط الحكومي بجامعة هارفارد، وكان سابقاً يشغل منصب كبير خبراء الاقتصاد  لدى صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top