ما شعورك لو كنت في طائرة أصابها عطل ما، فتستنجد بالطيار الذي أمنت نفسك وحياتك بيديه، وبدلاً من اتباع إجراءات الطوارئ والسلامة التي هي من اختصاصه، تجده قد هجر علمه ومعرفته وخبرته ورفع يديه إلى السماء داعياً ومصلياً يطلب العناية الإلهية، بينما الطائرة تتجه إلى السقوط؟
هذه قصة حقيقية وردت في صفحة «الأخبار الغريبة» على موقع وكالة «رويترز» الإخبارية، إذ أدانت محكمة إيطالية طياراً تونسياً تسبب في سقوط طائرة ومقتل 16 مسافراً، وحكمت عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة «الخطأ المهني والإهمال» لأنه تفرغ للصلاة والدعاء بدلاً من اتباع إجراءات الطوارئ والسلامة.رسم لي الخبر صور المقارنة مع الأجواء السياسية التي نعيشها هذه الأيام، حيث اتسعت أخيراً دائرة السياسيين الذين يقحمون الدين ومعتقداتهم المذهبية في المواقف السياسية والقرارات الإدارية والفنية، ويستبدلون أدواتهم الدستورية والقانونية بأخرى دينية وغيبية لتقرير مصيرنا نحن المواطنين، فهذا نائب يعزف عن الترشح بعد الاستخارة، وذاك مرشح يذهب إلى العمرة قبل أن يقرر، واستجواب مليء بالآيات والأحاديث وكأنه خطبة الجمعة كما كان استجواب وزير التربية الراحل د. أحمد الربعي، ونائب يستجوب رئيس الوزراء أخيراً دفاعاً عن الله والدين وكأن الله بعظمته وجلاله القادر على كل شيء بحاجة إلى دفاع عباده الذين خلقهم من طين عنه، ولجنة برلمانية تعلق استقرار اقتصاد الدولة حتى تسترشد فتوى وزارة الأوقاف، ووزير العدل والأوقاف يستنجد بالفتاوى بدلاً من الدستور والقانون لتدعيم إجراءات إزالة المصليات المخالفة، ومن جانب آخر يتقاذف الدعاة الفتاوى في ما بينهم بشأن تحية العسكري للمرأة الأعلى منه رتبة، وغيرها أمثلة تتكرر كل يوم.مشكلة المواقف السياسية والقرارات الإدارية المبنية على المعتقدات والغيبيات أنها تخضع لمزاج الدعاة وتنوع تفسيراتهم أحياناً، وتواضع علمهم وفهمهم أحياناً أخرى، إذ في السابق كان يُلجأ إلى عالم الدين لأنه كان ذا فهم شامل للحياة وملماً بالرياضيات والفيزياء والفلك والاقتصاد، أما الآن فـ»طــَرق» شهادة الشريعة وحفظ القرآن أو إحداهما، وعندما يتعلق مصيرنا باجتهاد هؤلاء، فلا راد لحقوقنا عندما تضيع، ولا حافظ لمصالحنا عندما تهدر، كما حصل مع أحد الدعاة السعوديين الذي اجتهد فحث الناس على الجهاد، فاستجاب له شباب فجروا بأنفسهم انتحاراً، ثم اجتهد مرة أخرى وتراجع عن فتواه، فمن يحمل ذنب هؤلاء الشباب؟نحن الآن مقبلون على انتخابات جديدة، والجميع يشدد على حسن الاختيار هذه المرة، ولكن الاختيار الحسن ليس بالضرورة «المصلي والمسمي»... فمن يقودنا يجب أن يكون قادراً على إعلاء الدستور والقانون وإرساء الممارسة السياسية والبرلمانية القائمة عليهما، أما الصلاة والتسبيح والفتاوى فمكانها القلب والبيت والمسجد.أعطوا السياسة لأهلها كما تعطى الطائرة للطيار المقتدر، فلا نريد نواباً ننتخبهم لتمثيلنا في مؤسسة دستورية قانونية ثم «يكسرون فينا» ويستبدلون طرحهم بالفتاوى والاجتهادات، كما «كسر» الطيار بمسافريه، فطائرتنا تترنح، ومازال الأمل قائماً لإنقاذها قبل أن نرفع أيدينا إلى السماء للدعاء والتشهد... أحسنوا الاختيار وأبعدوا المتاجرين بالدين السياسي... لا تسقطوا الطائرة ونحن فيها.
مقالات
لا تسقطوا الطائرة
08-04-2009