خبز الشعيـر... العربــي
عما لا يُستغنى عنه ولا يُكَفُّ عن هجائه، يقول مثل شعبي في سورية: «مثل خبز الشعير، مأكول مذموم». هذا ينطبق على «العرب» في عين بعض متعلميهم وكتابهم. أخيرا، استطاعت كاتبة عراقية أن ترد على كاتب فلسطيني سوري صحح لها أخطاء تاريخية في شيء كتبته، بالقول: «تعرضنا كشعب عراقي إلى أسوأ أنواع البطش في العراق إبان حكم البعث، وبطبيعة الحال، لم يعمل أي من الإخوة العرب على نصرتنا، اليوم، أرى أن الجميع قد انقلب علينا بعد أن تخلصنا من هذا الحكم». وتخاطب ناقدها بالقول: «أرجو أن تضع هذا الأمر نصب عينك عندما تقرأ أي شيء من أي عراقي». كأنما السيدة الكاتبة لا تكف عن نصرة المعرضين لـ«أسوأ أنواع البطش» في بلدان عربية أخرى؛ سورية، البعثية بدورها، مثلا. أو كأن البطش اختص العراقيين بأسوأ أنواعه، مدخرا أصنافه الأفخر لسائر «الإخوة العرب»! أو كأن البطش نفسه يمنح العراقيين عصمة من الخطأ، مهما فعلوا!
أخيرا أيضا استطاع كاتب سوري أن يقول: «فسورية التي ضحت وتحملت الكثير نظاما وشعبا دفاعا عن الحقوق العربية التي أضاعها أصحابها وتخلوا عنها لم تجن شيئا مقابل ذلك، بل على العكس، فبدلا من التفاف العرب حول سورية دفاعا عنها في وجه الهجمة البربرية عليها كانوا أول من استلوا خناجر الغدر وطعنوا سورية في ظهرها». هذا قبل أن يضيف إن «السوريين ملوا دفع الأثمان عن الآخرين وملوا حياة الترقب والحذر من غد لا يعرف أحد ما يخبئه لهم». والآخرون هم «العرب» أيضا. وقبل نحو ثلاثين عاما كان مصريون قد دشنوا «تراث» التشكي من العرب والتذكير بالتضحيات من أجلهم، وذلك في سياق تسويغ رغبة الحاكم بمصالحة إسرائيل. تبدو العروبة في كل الحالات «قطاعا عاما»، لا يكف الجميع عن نهبه والتعريض به، لكن شرط قيامهم بذلك هو مشاركتهم فيه، أي كونهم عربا هم أنفسهم. فحين تتملك بعضهم مشاعر الضيق من أوضاعهم، أو يرغبون في التنصل من المسؤولية عنها، يجدون في «العرب» دريئة مباحة يسددون إليها سهام سخطهم. فهم من جهة شركاء فيها، ما يمكنهم من لوم «الأشقاء» الآخرين، وهو ما لا يفعلونه مع الأتراك مثلا أو الإيرانيين، ولا من جانب آخر مع الأميركيين والغربيين. وهم من جهة ثانية يعلنون التبرؤ منها والإعداد لتماه مختلف. تماه مع وطنية عراقية تجمع بين السخط على العروبة والتقليل من شأن الاحتلال الأميركي، على نحو ما قد يكون الحال بخصوص الكاتبة العراقية. أو ضرب من الانعزالية السورية لتسويغ مفاتحات سلمية مع إسرائيل على نحو ما هو مصرح به علنا في نص الكاتب السوري. والأمر نفسه في تعبيرات مصريين قبل جيل من اليوم. في الحالات الثلاث ينطق الكتاب باسم هوية جمعية، عراقية مرة وسورية مرة ومصرية مرة، من دون أن يكون واضحا ما الذي يخولهم فعل ذلك. وفي الحالات الثلاث أيضا هم منخرطون في عملية تبرير إيديولوجية لخيارات إشكالية ومجادل فيها داخل بلدانهم، قبل أن تكون موضع اعتراض «العرب» الآخرين. وفي الحالات الثلاث، أخيرا، يجري توسل مدرك «العرب» لحجب أي تمايز ضمن جمهور لا يختلف حاله نوعيا عن حال العراقيين أيام صدام وبين سلطات لا تختلف نوعيا عن نظام صدام نفسه. ويحصل أن تعي عملية التنفير من العرب نفسها بإيديولوجية من نوع «مصر أولا» أو «سورية أولا» أو «الأردن أولا»، ضد مبدأ «العروبة أولا» (وهذا عنوان كتاب لساطع الحصري الذي يصادف أن الكاتبة العراقية حفيدة له). والحال، إن «العروبة أولا» أو العروبة المطلقة نزعة قومية استبعادية لا تصلح أساسا لوطنية قائمة على «الحرية والمساواة والإخاء» كما تثبت تجربة كل من سورية والعراق مع بعثيهما. وهي ليست استبعادية لأنها تنكر مساواة غير العرب بالعرب، ولكن أساسا لأنها ترفض مبدأ المواطنة، فتحرم العرب أنفسهم من المساواة الحقوقية والسياسية. غير أن ما يقترح في مواجهة العروبة المطلقة ليس إلا نزعة وطنية مطلقة، استبعادية بدورها، رافضة للمواطنة، تتطلع إلى أن تكون هوية مصمتة لا اختلاف فيها؛ اسمها نحن العراقيون الذين تعرضنا لأسوأ أنواع البطش، أو نحن السوريون أو المصريون الذين ضحينا من أجل الآخرين، أو نحن اللبنانيون الذين خاض الآخرون حروبهم على أرضنا... وعلى هذا فقس. المقابل الديمقراطي «للعروبة أولا» ليس «سورية أولا» أو «العراق أولا»، بل وطنية دستورية واستيعابية، تدرك أن العرب جزء أساسي أو الأساسي من العراق أو من سورية بقدر ما أن العراق أو سورية جزء من عالم عربي متنوع. تدرك أيضا أن وطنية سورية أو عراقية معادية للعرب أو العروبة، أي لمكون جوهري من مكونات هوية شعبها، يصعب أن تكون وطنية ديمقراطية تقوم على المواطنة لا على الهوية، على المساواة السياسية والقانونية بين سكان مختلفي الأصول الدينية والإثنية والمذهبية لا على التنميط الإيديولوجي، وعلى حقوق إيجابية للسكان لا على تمايزهم عن هوية مرفوضة. ليس التحول نحو السورية أو العراقية ضمانة فورية للديمقراطية والمواطنة والدستور، ولا العروبة بحد ذاتها هي العائق أمام وطنية مواطنين.على أن من شأن قيام وطنية دستورية وديمقراطية، في العراق أو سورية أو غيرهما، أن تكون عونا على انبثاق عروبة دستورية، أقل تفاصلا عن العالم حولنا وأقل تكتما على تعددها الذاتي. البداية من تأهيل دولنا القائمة لتكون لائقة بالبشر. وهذه مهمة لا يساعد فيها تأثيم العرب والنيل من العروبة. وليس في هذا الدفاع عن العرب مجاراة لقوميين عرب، لا يكفون عن تصور العروبة عربة يقودها سائس أو «قائد رمز»، على نحو ما عرفت كل من سورية والعراق. إن العروبة أهم من أن تترك للقوميين، بل إن التسويغ الأقوى لنقد القومية العربية هو الدفاع عن العرب وتحريرهم من تشكل إيديولوجي وسياسي، لم ينجح في تمثيلهم أو نصرة تطلعاتهم المشروعة. * كاتب سوري