Ad

جاءت حرب الخليج الثانية، التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، لتعلن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسيّر دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر. ومنذ اللحظة الأولى لإعلان ميلاد هذا النظام على لسان الرئيس جورج بوش (الأب) تباينت وجهات النظر العربية بشأن سبل التعامل معه من حيث التوقيت والأداء والعلاج.

تمضي السنين وتتبدل الأحوال ويعيش العرب المحدثون بين شد وجذب، ومد وجزر، لكن في جميع الظروف تبدو هناك خصوصية شديدة تربط نظامهم الإقليمي بالنظام الدولي، لا تتعلق فقط باللحظة القاسية الراهنة، ولا بالنظام الدولي الماثل أمامنا حالياً، بل بلحظات كثيرة في تحول البنية الدولية بوجه عام، بحيث بات التأثير المتبادل بين هذين النظامين يشكل حالة فريدة. فالعالم العربي يؤدي على مدار تاريخه دوراً فاعلاً في توازنات القوى بين المراكز السياسية الدولية، إذ كان بؤرة لأشكال التنافس العالمي المختلفة عبر النظم الدولية التي شهدها العالم سواء القطبية أو المتعددة، وبشكل أكثر تفصيلاً، فإن المنطقة العربية كانت في ما يبدو ذات أهمية بالغة للأطراف المتحالفة في الحرب العالمية الثانية، وهي الأطراف المتسابقة في ذلك الوقت لتحديد أدوارها في النظام الدولي الذي كان في طور التكوين، فالحرب التي دارت رحاها على أرض مصر عام 1956، حيث العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، كانت نقطة تحول في النظام الدولي من خلال إتيانها على الأحلام الإمبراطورية التي كانت لاتزال تراود بريطانيا وفرنسا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قطبين رئيسيين معترف بهما من قبل المجتمع الدولي برمته بعد أن أجبرا الأطراف الثلاثة على وقف العدوان، وكان هذا التدخل بمنزلة إعلان لبريطانيا وفرنسا أن وضعهما على الساحة الدولية قد تغير تماماً، ثم تأكدت هذه الخصوصية في أحداث ووقائع عدة حتى جاءت حرب أكتوبر عام 1973 لتغذي عملية التحول من الحرب الباردة إلى الوفاق بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وجاءت حرب الخليج الثانية، التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، لتعلن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسيّر دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر.

وفي الحقيقة فإنه منذ اللحظة الأولى لإعلان ميلاد النظام الدولي الجديد على لسان الرئيس جورج بوش (الأب) تباينت وجهات النظر العربية بشأن سبل التعامل معه من حيث التوقيت والأداء والعلاج، فمن حيث التوقيت بادر بعضهم وطالبوا بضرورة أن يلقي العرب بأنفسهم في خضم التفاعلات الدولية اعتماداً على الأهمية النسبية التي يوليها النظام الدولي للمنطقة العربية، بينما اتخذ آخرون موقفاً اتسم بالتريث والهدوء حيال التغيرات الدولية من منطلق الاقتناع بأن الدخول في المعترك الدولي الجديد يتطلب ترتيب البيت العربي من الداخل حتى يمكن للعرب أن يشكلوا جزءاً ذا بال من معادلات القوة على الساحة الدولية، ومن حيث الأداء تجاذبت العرب ثلاثة خيارات: أولها، التعايش مع هذا النظام استناداً إلى تصور مفاده أن النظام الإقليمي العربي لا يصنع ظروفه، وإن صنعها فهو لا يشكل ما يحيط به من تطورات على المستوى العالمي، ومن هنا فإن الأجدر بالعرب أن يتعايشوا مع النظام الدولي الراهن لالتقاط الأنفاس بعد كارثة حرب الخليج الثانية، وتحريك مفاصل الوعي العربي نحو استقلال تدريجي عن قبضة هذا النظام، أو بمعنى آخر التحرك تباعاً بعيداً عن فلك الهيمنة الأميركية، وثانيها التكيف، أي تحييد آثار التغيرات الدولية أو على الأقل الخروج بأقل خسارة ممكنة، وثالثها، التفاعل بمعنى الخروج عن النمط التقليدي في التعامل العربي مع النظام الدولي، والكف عن الارتكان إلى الواقعية السياسية فقط، واتخاذ خطوات جريئة تخرج النظام العربي من حالة الدفاع والتبعية إلى حالة الهجوم والاستقلال، ومن حيث العلاج انقسمت الآراء إلى شقين، الأول هو الشروع في إصلاح النظام الإقليمي العربي الحالي، والثاني هو بناء نظام جديد قادر على التفاعل بإيجابية مع النظام الدولي الراهن.

* كاتب وباحث مصري