تناولت في مقالي الاثنين الماضي تحت عنوان «إن الله يزع بالسلطـان ما لا يزع بالقرآن» المحكمة الدستورية العليا في مصر، التي تعتبر مثالاً حياً لهذه المقولة المأثورة والحقيقة المؤكدة، عندما تناست أصل نشأتها، والهدف الذي أنشئت من أجله، وهو حماية النظام وقوانينه، وتحصينها من الرقابة الدستورية التي كانت تملكها المحاكم كافة قبل إنشاء هذه المحكمة فأصبحت الأخيرة تنفرد بها، فضلاً عن هدف آخر هو إلزام المحاكم بما تراه من تفسيرات للقوانين، تناست المحكمة أصل نشأتها عندما تولى رئاستها القاضي الجليل والعالم الفذ المرحوم الدكتور عوض المر في بداية التسعينيات ولمدة ثماني سنوات، فأصبحت خلالها حصناً حصيناً للحقوق، وملاذاً أميناً للحريات، بهذا السيل المنهمر من أحكام عظيمة أصدرتها، أصبحت تدرس في جامعات الولايات المتحدة الأميركية.
والواقع أن مراجعة المحكمة الدستورية لأعمال السلطة التشريعية، وهي سلطة سياسية منتخبة من الشعب، قد أقحم المحكمة في الدرب الصعب الذي تخشاه أي رقابة قضائية، بحكم أن صراع السلطة القضائية مع أي من السلطتين الأخريين سوف يكون صراعاً غير متكافىء لهيمنة السلطة التشريعية بنص الدستور على التشريع الذي ينظم ولاية القضاء وشروط وإجراءات التداعي أمام المحاكم، فضلاً عن هيمنتها على الاعتمادات المالية المخصصة للسلطة القضائية في الميزانية العامة، ولدور السلطة التنفيذية في تعيين رجالها الأمر الذي دفع البعض إلى القول إن القضاء لا يستطيع أن يقف في وجه سطوة البرلمان، وأن القضاة إذا اعتقدوا أن مهمتهم تحتم عليهم أن يبلغوا بوظيفتهم القضائية إلى حد تحدي الحكام، وذلك في صورة الحكم بإلغاء تشريعاتهم بمقولة إنها مخالفة لقانون أعلى منها، فإنهم من ناحية يخطئون بحكم أنهم في مركز أدنى من مركز الحكام، وأضعف منهم قوة، وأن أحكامهم نفسها لا تستغني عن القوة الجبرية التي يحتكر الحكام امتلاكها بوضع هذه الأحكام موضع التنفيذ.ولذلك سوف نستعرض بعض أهم هذه الأحكام في ما يلي: أولاً: أهداف الرقابة على دستورية القوانين:حددت المحكمة طريقها والهدف من بسط رقابتها على دستورية القوانين في الحكم الذي أصدرته، والذي عبرت به المحكمة الدستورية عن صيانتها لمبادئ الديمقراطية والحرية، فيما قررته في قضائها من أن اختصاصها بالرقابة على دستورية القوانين، يستهدف صون الدستور وترسيخ مفهوم الديمقراطية التي أرساهـا سواء ما اتصل عنه بتوكيد السيادة الشعبية- وهي جوهر الديمقراطيـة- أو بكفالة الحريات والحقوق العامة- وهي هدفها- أو بالمشاركـة في ممارسـة السلطة- وهي وسيلتها- وذلك على نحو ما جرت به نصوصه ومبادئه التي تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم (صدر الحكم بجلسة 9- 10- 90 في القضية رقم 14 لسنة 21 ق).ثانياً: في صيانة المحكمة لحرية التعبير وحرية الصحافة: أرست المحكمة الدستورية مفهوم حرية التعبير وحرية الصحافة فيما قضت به بجلسة 14 يناير سنة 1994 في القضية رقم 17 لسنة 14 قضائية دستورية من أنه: «قد كفل الدستور حرية التعبير عن الآراء للتمكين من عرضها ونشرها بمختلف وسائل التعبير، باعتبارها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها، وبها يكون الأفراد أحراراً لا يتهيبون موقفاً، ولا يترددون وجلاً، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً.وأن الدستور قد قصد من خلال ضمان حرية التعبير، أن يظهر ضوء الحقيقة جلياً ولا يكون ذلك إلا عن طريق اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفاً على ما يكون منها زائفاً أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة،أو محققاً لمصلحة مبتغاه». وأن الدستور «قد زاوج حرية التعبير بحرية الصحافة ليحول دون التدخل في شؤونها من خلال القيود التي ترهق رسالتها، أو تعطل خدماتها في بنـاء مجتمعاتها وتطويرها». و«أن حرية التعبير أبلغ ما تكون أثراًَ في مجال اتصالها بالشؤون العامة، وعرض أوضاعها، تبياناً لنواحي التقصير فيها، وتقويماً لاعوجاجها».وفي تطبيق هذه المبادئ قضت المحكمة بعدم دستورية النص على اعتبار رئيس الحزب السياسي مسؤولاً مع رئيس التحرير عما نشر في جريدة الحزب «25 لسنة 16 جلسة 3- 7- 1995.ثالثاً: حرية تكوين الأحزاب والحرية النقابية: كما كفلت المحكمة الدستورية حرية تكوين الأحزاب والحرية النقابية فيما أصدرته من أحكام قضت فيها: اتفاقية كامب ديفيد:قضت بالنسبة لاتفاقية «كامب ديفيد» بعدم دستورية النص الوارد في قانون الأحزاب الذي يحرم قيام الأحزاب التي تعارض «اتفاقية كامب ديفيد». (ق 44 لسنة 7 قضائية دستورية- جلسة 1988- 5- 7)العزل السياسي: كما أصدرت المحكمة الدستورية حكماً بعدم دستورية بعض أحكام قانون حماية الجبهة الداخلية فيما تضمنته من نصوص تقرر العزل السياسي لمن أدانتهم محكمة الثورة في الجناية رقم 1 لسنة 1971. (القضية رقم 56 لسنة 6ق جلسة 1986- 6- 21)الحرية النقابية: كما قضت بأن النص في الدستور على قيام النقابات على أساس ديمقراطي يعني توكيد مبدأ الحرية النقابية بمفهومها الديمقراطي، وأن القانون رقم 125 لسنة 1981 فيما تضمنه من حل مجلس إدارة نقابة المحامين المنتخب وإنهاء ولايـة النقيب قد أخل بمبدأ الحرية النقابية بمفهومها الديمقراطي مخالفاً لأحكام المادة «56» من الدستور. (47 لسنة 3ق– جلسة 1983- 6- 11).رابعاً: حل مجلس الشعب: الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية بعدم دستورية الانتخابات بالقائمة بدءاً بالحكم الصادر في 16 مايو سنة 1987 بعدم دستورية القانون رقم 114 لسنة 1983 فيما تضمنه من تنظيمه للانتخابات لمجلس الشعب على أساس القوائم الحزبية وما يترتب على ذلك من حرمان المستقلين من ترشيح أنفسهم.وعلى أثر ذلك تم حل مجلس الشعب، وتعديل أحكام قانون الانتخاب ليجري الانتخاب للمجلس الجديد وفقاً لنظام يمزج بين القوائم الحزبية والانتخاب الفردي نص عليه التعديل الصادر بالقانون رقم 188 لسنة 1986، وتم الطعن بعدم دستورية القانون الأخير أيضاً، فقضت المحكمة الدستورية بجلسة 19- 5- 1990 بعدم دستوريته أيضاً فيما تضمنه من النص على أن يكون لكل دائرة عضواً واحد يتم انتخابه عن طريق الانتخاب الفردي ويكون انتخاب بقية الأعضاء الممثلين للدائرة عن طريق الانتخاب بالقوائم الحزبية.فصدر القرار الجمهوري بالقانون رقم 201 لسنة 1990 تنفيذاً لأحكامها ناصاً على اختيار أعضاء مجلس الشعب بطريق الانتخاب المباشر السري العام. وأكدت المحكمة مبادئها السابقة عندما أصدرت في 3 فبراير سنة 1996 أحكامها التي قضت بعدم دستورية سبع مواد من قانون نظام الإدارة المحلية.وأكدت المحكمة ذات المبدأ بجلسة 15 أبريل 1989 بعدم دستورية النص الذي يقصر الترشيح لعضوية المجالس الشعبية على المنتمين للأحـزاب السياسية (ق 14 س 8 قضائية دستورية).وإلى مقال قادم نتعرف فيه على بقية أهم هذه الأحكام.
مقالات
ما قل ودل: الصراع غير المتكافئ بين القضـاء والسلطة التشريعية
03-11-2008