في رثاء قاذف الحذاء
الخبر الذي تصدر الشاشات وحل مانشيتاً في الصحف والمجلات جميعها يوم قذف الصحافي العراقي منتظر الزيدي الحذاء، جاء باهتاً منزوياً يوم صدور الحكم، والعصاب الذي ساد الأمة من المحيط إلى الخليج لهاثاً وراء منتظر وسعياً للذود عنه، تحول شفقة ورثاء في أفضل الأحوال، ودعاء بالصبر والاعتصام بالأمل لتمضية العقوبة في معظمها.لم يمت قاذف الحذاء الصحافي العراقي منتظر الزيدي، لكنه يستحق أن يُرثى؛ فقد وقف وحيداً في قفص، ليتلقى حكماً، الخميس الفائت، بالسجن ثلاث سنوات، جزاء رشقه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش بحذائيه، أثناء حضوره مؤتمراً صحافياً، عقده هذا الأخير مع رئيس وزراء العراق، ببغداد، في ديسمبر الماضي.
كان منتظر ملء السمع والأبصار؛ إذ تُوج بطلاً وباباً للنصر والعزة، حين تجاسر وألقى حذاءيه بوجه «الرئيس المجرم»؛ قائلاً له: «هذه قبلة الوداع يا كلب»، فعُمّد في ذلك الحين مُخلصاً قومياً، وهتف العوام، في ليلته هذه، بحياته وشرفه، وناموا مرتاحين فخورين، «لأن منتظر حقق ثأرهم وأذل أعداءهم».«البنص أصدق أنباء من الكتب»، هكذا قال شاعر كبير، أما هذا الثري السعودي فعرض عشرة ملايين دولار ثمناً لـ «الحذاء الرمز»، وهذا المواطن العربي الفقير لم يجد سوى ابنته، ذات التسعة عشر ربيعاً، ليعرض تقديمها إلى «البطل منتظر» زوجة «إن أراد». أما المحامون فتطوعوا مدافعين، والسياسيون هللوا فرحين، والصحافيون أكدوا في جمعياتهم وفي مداخل نقاباتهم: «لم يعد أمام أي صحافي عربي حجة، فكل صحافي بات يعرف أن لديه سلاحاً عليه استخدامه ضد كل الأعداء... إنه الحذاء».التظاهرات عمت الشوارع، وتبادل المواطنون التهاني والتبريكات، ونشرت الصحف المقالات المدبجة في مديح «البطل الظافر»، والفضائيات نصبت «الشوادر»، وفتحت الخطوط لتلقي التهاني بـ«النصر المظفر»: «لقد أعاد منتظر العزة والكرامة للأمة العربية»، «أريد عنوان البطل أو أهله للتبرع لهم بنصف ما أملك»، «هذا أسعد يوم في حياتي»، «هذا دليل على أن الشعب العربي مازال قادراً على صنع المعجزات»، «أنا امرأة بسيطة لا أقرأ ولا أكتب ولا أفهم في السياسة، لكن ما فعله هذا الصحافي، الذي لا أذكر اسمه، حاجة حلوة قوي».إسلام خليل كاتب أغاني «المطرب» الشعبي الهزلي شعبان عبد الرحيم تجاوب مع الموقف سريعاً كعادته، وكتب: «خلاص ما لكش لزمة... يا بوش يا بن اللذينا، تستاهل ألف جزمة.. على اللي عملته فينا، الدنيا بحالها فرحت.. والناس فضلت سهارى، يا قلوب كتير حزينة.. قومي يالا اتبسمي، شوفي بوش وهو خايف.. والجزمة بتترمي». قال إسلام: «أخيراً لقيت حد غيري يقف في وجه بوش، أنا كنت أواجهه بقلمي وشعبان بصوته، ودلوقتي منتظر بجزمته».«الحذاء الرمز» بات أيقونة تُرسم على الحوائط، وفي رسومات الكاريكاتير، وفي دفاتر الدروس المدرسية، وأصبح «أداة تعبير سياسية» استخدمها سياسيون وبرلمانيون اقتداء بالبطل منتظر. أما صانع الأحذية التركي، الذي صودف أن حذاء منتظر كان من إنتاجه، فقد ضاعف عمله بعشرات الأضعاف، لتلبية الطلب المتسارع على الحذاء.راح الجمهور، مدفوعاً باليأس وضيق الأفق، ومتشجعاً بالهوس الإعلامي وحلقات المديح السياسية المغرضة، يرقص في العواصم: «درس عميق لكل ظالم ينكل بنا وينتهك سيادتنا وأعراضنا ويسلبنا الأرض والأمن والكرامة... سنقذفك بالحذاء» وبشارة غالية متوهجة، مرشوشة بفرحة النصر، ومتوجة بآيات المجد والفخار لأمتنا الجريحة: «عادت كرامتنا السليبة ولقنّا الوغد المجرم درساً سيخرجه إلى مزبلة التاريخ».ومعيار حرفة وشرف لكل صحافي عربي: «لا يهم أن تصور محمد الدرة فيما تخترق رصاصات الغدر والخسة الصهيونية براءته، فتقلب العالم ضد إسرائيل وتقدم أفضل خدمة ممكنة لأهلنا في فلسطين وقضيتهم الغالية. ولا يهم أيضاً أن تكشف فضيحة أبو غريب، فتعري زيف سلم القيم الأميركي الأجوف، وتفضح همجية بوش أمام الأمم، وتدق المسمار الأهم في نعش إدارته الخرقاء. المهم أن تقذف أعداء الأمة بالحذاء... كما فعل البطل منتظر».فارق كبير بين المشهدين؛ ضجيج وتفاؤل واحتفال بالنصر يوم قذف الحذاء، وسباق بين المداحين الفخورين على إثابة البطل واحتضانه والدفاع عنه حتى آخر نفس والتبرع له بكل نفيس، وتراجع وانزواء وتوار يوم صدور الحكم، اكتفاء بعبارات جوفاء مكسورة أحياناً، أو تهنئة لأن المحكمة كانت رؤوفة ولم تصدر حكماً بالحد الأقصى للعقوبة، أو مراجعة للموقف لأن منتظر خرج عن شعوره وعن مقتضيات ممارسة المهنة.الخبر الذي تصدر الشاشات وحل مانشيتاً في الصحف والمجلات جميعها يوم قذف الحذاء، جاء باهتاً منزوياً يوم صدور الحكم، والعصاب الذي ساد الأمة من المحيط إلى الخليج لهاثاً وراء منتظر وسعياً للذود عنه، تحول شفقة ورثاء في أفضل الأحوال، ودعاء بالصبر والاعتصام بالأمل لتمضية العقوبة في معظمها، وتهنئة بتفادي العقوبة الأشد، أو توعية لآخرين بألا يقعوا في خطأ ارتكاب «الفعل المتهور» ذاته في أقساها.يمكنك أن تقرأ تعليقات الجمهور على الخبر المقتضب المنشور في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية العربية عن سجن منتظر ثلاث سنوات، والذي صدر في محكمة عراقية في حضور المتهم وبعض أقاربه وعدد قليل من أصدقائه، وفي غياب جميع من «نذر حياته» للدفاع عنه جزاء بطولته، ومن دون أن يجد متبرعاً واحداً من واهبي الملايين قولاً لا فعلاً، ولا فتاة وحيدة من العشرات اللاتي عرضن أنفسهن «أزواجاً» وقت أن توّجه الجمهور المأزوم بطلاً.أفضل ما كُتب من تعليقات كان العبارتين: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، و«حسبي الله ونعم الوكيل»، وهما عبارتان عبقريتان إذ تلخصان الواقع إلى حد كبير بتعبيرهما البارع عن كل المواقف المتخيلة إزاء هذا الحدث وضدها في آن.ستجد أيضاً: «يخرج ويعود إلى أهله مكرماً إن شاء الله»، وستجد «الحمد لله أنه لم يفعلها زمن صدام، وإلا كانت قبيلته أبيدت عن آخرها»، وآخريذّكر بأن «ضابطاً عراقياً قتل هو وإخوته لأنه غير القناة التلفزيونية حين كان صدام يلقي خطاباً عليها وقت رئاسته»، وآخرهم كان إيجابياً بحق منتظر؛ إذ قال: «لقد دخل هذا الرجل بابين؛ أحدهما ضيق هو السجن والثاني واسع وهو التاريخ... فهنيئاً له».الآن ستقعي وحيداً يا منتظر في سجن بارد لسنوات ثلاث، وستخرج يوماً لتواجه جمهوراً تعرفه جيداً وتعرف ألاعيبه؛ هذا الذي رفعك إلى عنان السماء كما يرفع لاعب كرة أحرز هدفاً في مباراة مثيرة، ثم هبط بك إلى سابع أرض، مكتفياً في أفضل الأحوال برثائك والربت على كتفيك، وهذا الجمهور، كما بت الآن تعرف، مما لا يُعول عليه.* كاتب مصري