من المفاهيم المعرفية الشائعة في الثقافة الشعبية «أسطورة» وجمعها «أساطير»، وتعني حكاية خرافية من اختراع القدماء كالأساطير اليونانية والرومانية والبابلية والآشورية والفارسية والهندية، فكل شعب له أساطير.
دخلت الكتب المقدسة في لحظة التدوين، كما دخلت الأساطير البابلية في العهد القديم، في كتاب «بدء الخلق» في البخاري، لدرجة أن بعض اللغويين اعتبروا اللفظ مشتقا من اللفظ اليوناني «استوريا» أي قصة أو حكاية ومنه اشتق أيضا لفظ التاريخ، فكلاهما تدوين القدماء.وقد استعمل تسع مرات في القرآن الكريم في صورة لغوية واحدة وشكل أدبي واحد «أساطير الأولين» وبمعنى واحد إشارة إلى الوحي الإسلامي «إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، فهو اتهام غير المؤمنين به قول الآخرين «فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، وهي تهمة عامة للوحي بصرف النظر عن صفته، سمعا أم تلاوة أم إملاء أم كتابة أم نزولا أم وعدا.هي تهمة عامة ممن لا يؤمنون بالوحي «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، فهو قول الخصوم، ويعنون بأساطير الأولين قصص اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وهي الفرق الدينية المذكورة في القرآن والتي وجدت في شبه الجزيرة العربية. وماذا عن أساطير مصر القديمة وقد كانت على صلة بشبه الجزيرة العربية عبر التجارة؟ وماذا عن أساطير الأحباش وقد كانوا في غارات مستمرة على اليمن ومكة مثل غزوة أبرهة؟ وماذا عن أساطير بابل وآشور وكنعان في حضارات ما بين النهرين من خلال التجارة، ورحلتي الشتاء والصيف، ومن خلال الأساطير اليهودية؟ثم يتم تفصيل هذه التهمة. فهو وحي مسموع سمي في التراث «السمع» في مقابل العقل «قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ». فكلها روايات شفاهية مثل غيرها في شبه الجزيرة العربية، وهو وحي متلو مقروء، «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، لذلك سمى القرآن تلاوة، وهو قرآن مدون مكتوب «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»، لذلك سمي القرآن المصحف أو الكتاب. وهو الذي نزل من السماء «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ»، لذلك سمي القرآن التنزيل، وقد سمي أيضا الوعد الذي وعد به الآباء والأجداد «لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ». التعبير إذن تهمة وقدح في الوحي وتشبيهه بأساطير الأولين من صنع الخيال الجمعي والثقافة الشعبية، مجرد حكايات خرافية لا صلة لها بالتاريخ ولا بالواقع. هي محض خيال، جزء من الآداب الشعبية القديمة حول الأبطال ومسارات الشعوب في التاريخ.ومع ذلك يستعمل نفس اللفظ باشتقاقات أخرى مثل مسطور، يسطر، مستطر بمعان مشابهة ودلالات قريبة، ولكن على نحو إيجابي. إذ يقسم الله بالكتاب المسطور وهو القرآن المدون «وَالطُّورِ. وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ» باعتباره شيئا مرئيا ملموسا مثل جبل الطور وأي رق منشور. وكل ما يحدث في الواقع ويقع في التاريخ مدون في كتاب سواء اللوح المحفوظ أم القرآن «كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا». وهو كتاب لا يسطر إلا الخير والأفعال الحسنة «إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا» كي يشجع الناس على العمل الصالح وفعل الخير. كما يستعمل الفعل «سطر» للتدوين أي لحفظ المعرفة وليس للقرآن وحده، فالقرآن جزء من النسق المعرفي الإنساني «ن. وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ». وهذا التسطير بالقلم جزء من النعمة الإلهية، فالوحي نفسه مدون مسطور في اللوح المحفوظ، والقرآن مدون في اللوح المحفوظ، والوحي كله مدون في الصحف، صحف إبراهيم وموسى، التوراة والإنجيل والزبور، وهي كتب الأولين المذكورة في القرآن. ويعني اللفظ أي شيء مدون صغيرا كان أم كبيرا «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ».التدوين خطوة كبيرة في تطور الحضارة بعد نشأتها في المرحلة الشفاهية، والتحول من الشفاهي إلى المدون نقلة حضارية كبيرة، لذلك عظم دور الكتبة، الأحبار والكهنة والفقهاء الذين اشتغلوا بمهمة التدوين، وخطورة ذلك هو عدم التطابق بين الشفاهي والمدون على فرض تطابق الشفاهي مع نفسه، لذلك أتت تهمة القرآن للكتب المقدسة السابقة بالتحريف والتغيير والتبديل «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ». وحرص المسلمون الأوائل على تدوين القرآن خشية استشهاد حفظة القرآن ودخول التحريف والتبديل عليه، والزيادة والنقصان تحقيقا لآية «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ». والحفظ ليس بالفعل الإلهي بل بمناهج النقل في علوم القرآن، وعدم مروره بفترة شفاهية كالحديث أو مثل باقي الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل.وبالرغم من رد الفلسفة الغربية المعاصرة الاعتبار إلى الأسطورة باعتبارها صورة رمزية للفكر عند كاسيرر في كتابه «فلسفة الصور الرمزية» فإن اللفظ في الثقافة الشعبية مازال له مدلول سلبي أي الخرافة التي أشبه بقصص الأطفال الخيالية أو ثقافات الشعوب البدائية التي تقوم فيها الأساطير بدور العلم والفلسفة والدين.* كاتب ومفكر مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
أساطير الأولين
18-05-2009