ماذا يا ترى يدور في ذهن الدكتاتور وهو يغادر بلاده إلى الأبد مذموما، مدحورا، يرى البلاد التي حكمها من الجو، يفكر في من خانه ربما، ولكن لا أظن أنه قد توصل إلى حجم الكارثة التي جلبها على شعبه بإصراره على أنه هو، وهو فقط الذي يحتكر الحقيقة والحكمة.من غير المعروف أين ستكون المحطة القادمة للجنرال برويز مشرف، ولكنه كان لافتا للنظر، أنه حالما أطل مشرف بطلعته البهية مودعا، وراحلا عن السلطة، مكرها، لا بطلا، فقد قطع عنه حليفه الأميركي «الماء والنور»، بدأت التكهنات حول أين سيذهب، وكانت أولى الشائعات هي أن طائرة سعودية جاهزة لنقله إلى السعودية، تحت غطاء «العمرة». وعلى الرغم من النفي السعودي لتلك الشائعة على لسان السفير السعودي في باكستان، فإن التكهنات حول الطائرة التي ستنقله من باكستان الى مكان آخر ستظل مشتعلة حتى يأذن الله أمرا كان مفعولا.
حكاية الدكتاتور الطائر، الذي يغادر بلده مرغما بعد أن جلب الخراب لبلده هي حكاية مكررة وإن اختلفت التفاصيل. بعض الدكتاتوريين لم يكتب لهم الحظ أن يستقلوا تلك الطائرة مثل نيكولا تشاوتشيسكو الذي حاول الفرار ولكن تم القبض عليه وأعدم في غرفة صغيرة في إحدى القرى الرومانية.
اما أظرف أولئك الدكتاتوريين فقد كان الجنرال راؤول سيدراس حاكم هايتي العسكري، الذي عندما شعر بأن الساعة قد دنت، وأن احتمال غرو أميركي لبلاده بات في الأفق، اتصل بالرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ليقوم بوساطة والذي قام بدوره بالتفاهم مع الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون الذي وافق على قيام كارتر بالوساطة وأرسل معه رئيس الأركان ووزير الخارجية السابق كولن باول وعلى إثر ذلك التحرك وتلك المباحثات وافق راؤول سيدراس على مغادرة هايتي إلى بنما. إلا أن المفاجأة كانت حين غادر كارتر ومن بمعيته وتركوا التباحث بتفاصيل كيفية مغادرة سيدراس مع فريق عسكري أميركي، وجدوا سيدراس يضع شرطا لمغادرته لم يكن ضمن الاتفاق، فقد اشترط لمغادرته أن تتعهد الحكومة الأميركية بتأجير عمارة يملكها في وسط العاصمة الهايتية وقد احتار المفاوض العسكري الأميركي في ذلك الطلب، وكاد الاتفاق أن يتعثر، فطلب العسكري الأميركي من رؤسائه في واشنطن المشورة، فوافقوا على طلب سيدراس، وركب طائرة وغادر إلى بنما، ولا أعرف إن كانت الحكومة الأميركية قد أوفت بالتزامها بتأجير العمارة، أو إن كانت مازالت تستأجرها منذ عام 1994 حتى الآن. كان دكتاتورا ظريفا فعلا.
وربما كانت أشهر وأتعس رحلة في الطائرة مرت على دكتاتوريي العصر هي تلك التي عاناها شاه إيران محمد رضا بهلوي، فقد حملته الطائرة من طهران من دون أن توافق دولة على استقباله، وبصعوبة نجح تدخل صديقيه روكفلر وهنري كيسنجر لدى الحكومة الأميركية، في أن يحصلا على موافقة حكومية بهبوط الطائرة ومغادرتها بعد وقت قصير دون السماح له بالبقاء في أميركا، إلا أن ذلك الهبوط أيا كان وصفه كان مكلفا جدا، فما إن هبطت الطائرة في الأراضي الأميركية حتى اقتحم الطلبة الإيرانيون السفارة الأميركية بطهران واحتجزوا من فيها لفترة بلغت 444 يوما. حيث كان الإيرانيون يخشون من تكرار تجربة محمد مصدق، والدور الأميركي القذر في إعادة الشاه إلى الحكم عام 1953 وتدبير انقلاب على الحكومة المنتخبة آنذاك.
ماذا يا ترى يدور في ذهن الدكتاتور وهو يغادر بلاده إلى الأبد مذموما، مدحورا، يرى البلاد التي حكمها من الجو، يفكر في من خانه ربما، ولكن لا أظن أنه قد توصل إلى حجم الكارثة التي جلبها على شعبه بإصراره على أنه هو، وهو فقط الذي يحتكر الحقيقة والحكمة.