الغوري... والمسجد الحرام
كانت مدة سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، فكانت هذه المدة على الناس كل يوم منها «كألف سنة مما تعدون». بهذه العبارة قدم المؤرخ المملوكي محمد بن أحمد بن أياس لترجمة حياة الملك الأشرف قانصوه الغوري آخر سلاطين دولة المماليك التي زالت على أيدي الأتراك العثمانيين.
وفيما قاله صاحب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لم يكن مبالغاً أو متجاوزاً للحقيقة ولا متجنياً على الغوري. كان الغوري أسوأ خاتمة للتاريخ المملوكي، ومثلما كان تعبيراً موجزاً عما آلت إليه دولة المماليك تولى الحكم وهو شيخ هرم في الستين من العمر، فكأنما أراده القدر وانتقاه لهذه السلطنة التي تطاول بها الزمن ودبت في أوصالها عوامل الضعف والانحلال. وكان الغوري تداعياً من تداعيات انهيار منصب «السلطان» في عصر المماليك، بعدما تقلب عليه أطفال صغار وأمراء بلا كفاءة وآخرون كانوا مسلوبي الإرادة مع مماليكهم الأجلاب. فهو أولا كان كل شئ في الدولة رغم شيخوخته ويكفي أن السلطان الذي سبقه وهو العادل طومان باي، قالت له أرباب الملاحم «ما يأخذ منك الملك إلا حرف القاف فظن أنه (الأمير) قصروه فقتله ظلماً ولم يكن يحسب لقانصوه الغوري حساباً». وإحقاقاً للحق فإن قانصوه الغوري ظل طيلة مدة حكمه من «الزاهدين» في مباشرة أمور الحكم وتسيير شؤون رعاياه «فكان يهرب من المحاكمات بين الرعية، كما يهرب الصغير من الكتاب وما كانت له محاكمة تخرج على وجه مرض بل على أمور مستقبحة، فتعطلت لذلك أشغال الناس، وتجاهل الغوري أيضاً أمور القتلاء وآثر دوما دفع الأخصام إلى الشرع وكثيراً ما أدى هذا المسلك إلى ضياع حقوق الناس». وزاد الطين بلة أن الغوري كان يتكاسل عن توقيع المراسيم ومهرها بالعلامة السلطانية وقد يمضي أربعين يوماً لا يمسك فيها قلما ولا يعلم على مرسوم «فيوقف أشغال الناس بسبب ذلك حتى كانت تشترى العلامة العتيقة حتى تلصق على المرسوم لأجل قضاء الحوايج». إذن كيف أمضى السلطان مدة حكمه الطويلة وفيما أنفق سنواتها الخمس عشرة؟!. أكثر من نصف هذه المدة قضاها السلطان في «المواكب» التي حرص على أن يركب فيها على صهوه جواده أيام السبت والاثنين والثلاثاء والخميس من كل أسبوع ، حتى يملأ منظره أعين الناس كافة. أما بقية مدة سلطنته فقد قضاها بين «الترف» وتحصيل الأموال من رعيته وعماله للانفاق منها على ملذاته الخاصة ومطالب مماليكه الأجلاب المتزايدة . ففي ذات الموقع الذي يحتله الآن ميدان صلاح الدين «القلعة سابقاً» أنشأ قانصوه الغوري بستاناً ببحيرة صغيرة حملت إليه كميات هائلة من الطمي، وزود السلطان بستانه بأنواع الفواكه والأزهار، والحيوانات والطيور، وظل يتردد على بستانه من آن لآخر ليتفقد العمل به وليشبع ولعه بغرس الأشجار وحب الرياضات وسماع الأطيار المغردة ونشق الأزهار العطرة. وإذا ما صعد الغوري إلى قصره صرفه همه إلى سماع الأطيار المغردة واستعمال طاسات الذهب لشرب الماء وتعاطي الأشياء المفرحة ( المخدرات ) وكان السلطان فوق ذلك نهما في الأكل مولعا بشم الرائحة الطيبة من المسك والعود والبخور ويلبس في أصابعه الخواتم الياقوت الأحمر والفيروز والزمرد والماس، وبالجملة “كان ترفاً في مأكله ومشربه وملبسه”. ولم يشأ قانصوه الغوري أن يغادر عالم الأحياء دون أن يترك للأجيال اللاحقة له أثرا مادياً يشهد بصحة ما ذكرته المصادر التاريخية عن مساوئه. وعلى طريقة «الخطوة خطوة» بدأ الغوري في البحث عن قطعة أرض يشيد عليها مسجده ودله أصحاب السوء على مدرسة تحت الإنشاء، فقبض على صاحبها «الطواشي مختص» وصادره وقرر عليه مالا جزيلاً فأعطاه هذه المدرسة من جملة ما قرر عليه من المال وكان بنى منها بعض شئ، وهكذا جاءت أرض المسجد غصباً ومصادرة، فهل من مزيد؟ فلما ملك الغوري المدرسة هدم ما بناه مختص ثم أوسع في بنائها وأخذ سوق الجملون وما حوله من الأسواق وضم هذه الأراضي غصباً ليقيم عليها مسجده. وأنفق السلطان على عمارته من المال الذي جمعه من وجوه المظالم ومصادرات الناس ، وحتى مواد البناء فقد حصل عليها بأبخس الأثمان، وأخذ غالب رخام المسجد من أماكن شتى، فأخرب قاعة شموال اليهودي الصيرفي وأخذ رخامها وأبوابها وفعل مثل ذلك بعدة قاعات. واستحق هذا المسلك المشين أن يدينه المجتمع المتمسك بقيم الإسلام ومبادئه، فسمى بعض اللطفاء هذه المدرسة «المسجد الحرام» لما وقع فيها من غصب الأرض وانفاق من مال فيه شبهات.