ما بعد غوانتانامو
على الرئيس الجديد للولايات المتحدة، تقع مهام كبيرة في ما يتعلق بحقوق الإنسان، وهناك مجموعة كاملة من القوانين والإجراءات الأميركية التي انحطت بتلك الحقوق إلى درك الدول الاستبدادية وممارساتها، بحاجة إلى إلغاء أو مراجعة. منظمة العفو الدولية، دعت الرئيس المنتخب إلى إظهار التزامه بحقوق الإنسان خلال الأيام المئة الأولى من رئاسته، عبر قائمة طويلة من المطالب لتصحيح أوضاع خلقتها إدارة بوش، من الكشف والإلغاء لبرامج الاعتقال والاستجواب والتسليم السرية، إلى وقف ممارسة التعذيب إلى محاسبة أولئك الذين تورطوا في هذه الجرائم طيلة فترة السنوات الماضية من «الحرب على الإرهاب».
في مقدمة تلك القائمة، يأتي إغلاق معتقل غوانتانامو، وتوفير محاكمة عادلة لمن ستجري محاكمتهم في الولايات المتحدة، والسماح لمن يتخوفون من التعرض للتعذيب في بلدانهم الأصلية للعيش في الولايات المتحدة، أو التعاون مع دول أخرى لتأمين سلامتهم. بالتأكيد فإن إغلاق المعتقل أصبح مسألة وقت لا أكثر، من غير أن يعني ذلك بالضرورة طي هذا الملف الحقوقي الأسود وتبعاته. حيث يبدو أن التعامل مع تبعات هذا الإغلاق لا تقل إثارة للجدل حقوقيا وأخلاقيا، عما أثاره المعتقل بحد ذاته وجملة الممارسات التي ارتبطت به طوال السنوات الماضية. هناك العشرات من بين نحو 250 معتقلا لا يزالون قيد الاعتقال، يحتمل أن يجري ترحيلهم إلى دولهم من غير محاكمة، مثل مئات آخرين جرى ترحيلهم سابقا، لكن تخوف هؤلاء من تعرضهم للتعذيب وإساءة المعاملة والمحاكمة الجائرة في أوطانهم، دفع المنظمات الحقوقية الدولية إلى المطالبة بوقف عمليات الترحيل تلك، خاصة بعد تسجيل العديد من الحالات التي تعرض فيها المعتقلون العائدون إلى التنكيل أو إساءة المعاملة في دولهم، وقد صدر بالفعل في أكتوبر من العام الماضي، قرار قضائي أميركي يمنع تسليم مواطن تونسي معتقل في غوانتانامو، إلى حكومته لهذا السبب. إذا روعيت المعايير الدولية لحقوق السجناء، بكل تأكيد لا يجوز إجبار من لا يرغب بالعودة إلى حيث تصبح سلامته الجسدية والنفسية مهددة، وتكمن المشكلة في ما يتعلق بغوانتانامو، بأن أي دولة، باستثناء ألبانيا، لم تقبل حتى الآن إعادة توطين من قد يفرج عنهم من المعتقلين. فيما تقترح بعض المنظمات الدولية، أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة توطين وتأهيل عدد من هؤلاء على أراضيها، لتشجيع دول أخرى على استقبال آخرين. لا يبدو هذا الخيار سهل التطبيق، حيث كيف يمكن للمجتمع الأميركي أن يتقبل هؤلاء بين أفراده، ومنهم بالتأكيد من يحمل مشاعر عداء كبيرة تجاه هذا البلد من غير تمييز بين سياساته وثقافته وأهله، إن لم يكن قبل الاعتقال، فبعده وبسببه. ومنهم من يحمل فكرا متطرفا، لم يزده الاعتقال وظروفه إلا تشددا، وبالتالي يستمر هؤلاء بتشكيل خطر محتمل للمستقبل. وهناك حالات في عدد من الدول العربية، حيث انخرط معتقلون سابقون بتهم التشدد العنفي، بأعمال عنفية جديدة عقب الإفراج عنهم. وماذا عن عائلات المعتقلين، وإجراءات لم الشمل والرقابة والإعاشة وإعادة التأهيل وغير ذلك. هذه الأمور وغيرها، ستكون محل نقاش يحتمل العديد من وجهات النظر المتباينة. حتى على صعيد المعتقلين، قد لا يبدو أن خيار إعادة التوطين في الولايات المتحدة، هو الأفضل لمساعدتهم على تخطي الماضي وتجاوز التشوهات النفسية التي تسببت بها فترات الاعتقال وإساءة المعاملة المديدة، وقد يكون الحاجز النفسي الذي من الطبيعي أن يولده وجودهم في الدولة التي تسببت بمعاناتهم، فضلا عن عوامل الغربة المادية والثقافية، عائقا أساسيا لجهة دمجهم في المجتمع. يسهل القول إن على أميركا تحمل تبعات أفعالها، لكن فقط، إن لم نتذكر أن العالم أجمع، وفي مقدمته كثير من الدول التي ينتمي إليها معتقلون في غوانتانامو، كان مشاركا في تلك الممارسات اللاإنسانية، تعاونا وتنسيقا في معظم الأحيان وصمتا في أحيان أخرى. وأنه ربما لولا تهاون تلك الدول وعدم جديتها في استعادة رعاياها أو التأكيد على عدم انتهاك حقوقهم، لما بقي المعتقل حتى الآن، فضلا عن أن معظم الحراك المناهض لغوانتانامو، كان أميركيا بالأساس، على الصعيدين الحقوقي والإعلامي. قد يكون خيار الدولة الثالثة على صعوبته هو الأفضل، لكنه يستحق بذل جهود حثيثة لتحقيقه، وفي جميع الأحوال، سيكون من شأن تتويج معركة «مواجهة الإرهاب بالعدالة» بإغلاق غوانتانامو وإلغاء إجراءات لا قانونية أخرى في الولايات المتحدة، أن ينقل الكرة إلى ملاعبنا الملطخة بالاعتقال التعسفي والتعذيب ومحاكمات أمن الدولة. لن يكون هناك غوانتانامو للتذرع به كلما أثير موضوع الانتهاكات في معرض الحرب ضد الإرهاب. يكاد المرء منذ الآن يرى دمعة حزن على «وجوههم» بسبب الإغلاق المحتمل! * كاتبة سورية