أغلبية القوانين لا تعاقب على سوء السلوك الذي يمارسه الانسان ضد الآخر، لكن مدنية المجتمع تُقاس بالسلوك الحضاري الذي يمارسه الفرد، والمجتمعات الغربية تتباهى غالبا بسلوك أفرادها الحضاري مقارنة بغيرها من المجتمعات.
ما يعرضه الفيلم الوثائقي «للجحيم أيتها الأخلاق! انحطاط المدنية» للمخرج جون كيرتن، والذي بثته احدى القنوات الأميركية قبل فترة، يتناول بكثير من الأسى مشكلة السلوك الحضاري للفرد الذي أصبح ينحدر بشكل خطير. يتجول الفيلم في مدن شمال أميركا والمملكة المتحدة، متابعا سلوك الأفراد وطبيعة العلاقات فيما بينهم، حيث بدأت الرقة والتعامل اللطيف ينحسران أمام الفظاظة والقسوة. ويكتشف الفيلم أن الناس أصبحوا يميلون الى القسوة والجفاء في التعامل اليومي، وأصبح الشتم واللعن جزءا من الحياة اليومية للناس، ابتداء من العمال الذين يسرقون طعام زملائهم من الثلاجات في أثناء استراحات العمل الى مشجعي الهوكي، وهم يصبّون شتائمهم ولعناتهم على حكام المباريات بحضور النساء والأطفال. لقد أصبح منظر الرجل الوقور الذي يمنح مقعده لسيدة حامل في مترو الأنفاق، يشبه الحلم. ولكن ما الذي غيّر المجتمع الخلوق والطيب من أفراد يتبادلون كلمات الود والاعتذار والابتسامات الودودة، الى أفراد ينظرون شزرا بعضهم إلى بعض، وكأن هناك عداء مضمراً ووحشة بين أفراد لا يعرفون بعضهم بعضا؟ ذلك السؤال يعرضه الفيلم ولا يجيب عنه مباشرة، أما خبراء الاجتماع فيرون أن ارتباط الانسان الجديد بالتكنولوجيا هو أحد أهم الأسباب التي علينا أن نلومها، فمعظم الناس يعيشون في الفقاعة الالكترونية التي تعزلهم عن مواجهة الآخر وجها لوجه. ان بقاء الفرد تحت تأثير ضياع الاتصال الالكتروني له الأثر الأكبر في تغيير سلوك الفرد، فتحت هذا الاتصال تقوم العامة بنشر الكثير من البذاءات والتعليقات الجارحة، من دون الشعور بالحرج الذي يمكن أن يسببه الاتصال المباشر بالآخر، فأغلب الشباب يقضون أوقاتهم وهم يكتبون حواراتهم ويقرأون الردود، من دون ذلك الدفء الانساني الذي يغلب على معظم العلاقات البشرية الطبيعية. الإنسان الذي يجلس وحيدا أمام شاشة الكمبيوتر يتجرد من انسانيته تجريديا ويتحول الى جزء مشابه للآلة التي أمامه، فهو لا يجد حرجا من كتابة ما يشاء للطرف المقابل من دون احساس بالمسؤولية الأخلاقية، ذلك الضياع الالكتروني ينعكس بصورة سيئة حين يتصل الفرد بالآخر وجها لوجه. نشر أحد الصحافيين تحقيقا ظريفا بشأن العلاقة بين الفرد وماكينة الصرف الآلي، وكيف تحولت العلاقة الودودة مع موظف بنك تعرفه ويعرفك الى علاقة بينك وبين آلة جامدة مثبتة على جدار صامت، في علاقة تتبادل فيها حديثا سريعا عن الطقس أو الرياضة الى علاقة ينقطع فيها الحديث. تذكرت هذا التحقيق، وأنا أقف خلف رجل أمام احدى آلات الصرف ويقف خلفي بشر آخرون، الرجل لم يتمكن من التفاهم مع الآلة لسبب ما فراح يركل الجدار ويشتم بطريقة بذيئة، من دون أن يلتفت خلفه ويراعي شعور الآخرين، تذمرت امرأة خلفي وتأفف رجل ولم ينتبه الذي يقف أمام الآلة. مجتمعنا العربي، والكويتي خصوصا، يعاني أصلا انحدار السلوك، والعلاقة بين الأفراد تكاد تراها واضحة في السلوك اليومي ابتداء من الشارع وطريقة القيادة وانتهاء بالسلوك الثقافي بين النخبة، ذلك قبل انعزال الفرد في الفقاعة الالكترونية، فما الذي سيحدث حين يتوحد الفرد وتندر مواجهته الآخر؟
توابل - مزاج
نهاية السلوك الحضاري
05-10-2008