ابن رشد...يُبعث للحياة من جديد

نشر في 22-12-2008
آخر تحديث 22-12-2008 | 00:00
 لمى فريد العثمان مرت علينا في الأسبوع الفائت نسمة انفتاح عليلة... حين استضاف مركز الحوار «تنوير» المفكر والفيلسوف والمؤرخ الجزائري محمد أركون في احتفالية «التنوير ... إرث المستقبل». مرت علينا هذه النسمة وسط جو من الاختناق القاتل... ليحدثنا أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي في السوربون (لأكثر من ثلاثين سنة) عن عصر الأنوار الذي بزغ فجره في أوروبا نتيجة لتشكل النزعة الإنسانية في القرن التاسع عشر بعدما عانت أوروبا ما عانته في القرون الوسطى. ولكن أركون يؤكد أن هذه النزعة الإنسانية لم تكن وليدة عصر النهضة الأوروبية إنما كانت موجودة في المجتمعات الإسلامية والعربية قبل أوروبا بسبعمئة سنة على الأقل... وتحديدا في القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادي .. حين تجسدت النزعة الإنسانية في المرحلة التي يسميها أركون بـ«المرحلة الكلاسيكية المبدعة» من خلال مؤلفات فلاسفة وأدباء كالجاحظ والتوحيدي ومسكويه والمتنبي والمعري والبيروني والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم ... حيث تصالحت الفلسفة مع الدين وازدهرت الترجمات من الثقافة الإغريقية والهندية والفارسية. تموت بعد ذلك هذه النهضة الإنسانية الإسلامية في القرن الثالث عشر بموت ابن رشد «كمرحلة واسعة وجماعية» وموتها «نهائيا» بعد موت ابن خلدون في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، الذي كان «اسثناء على القاعدة، ليس إلا... لأنه فرد معزول داخل عالم قاحل هجره الفكر إلى حد كبير وغطس في مستنقع التكرار والاجترار العقائدي أو المذهبي الضيق» (على حد تعبير أركون). وتعاود العقلانية والإنسانية ظهورهما من جديد في القرن التاسع عشر في مصر من خلال رفاعة الطهطاوي وغيره من المتنورين بسبب الابتعاث إلى أوروبا والاحتكاك بحضارتهم... وبعد حملة نابليون بونابرت على مصر ووصول محمد علي... وهي المرحلة التي شبهها أركون بالمرحلة الكلاسيكية المبدعة .. لتنتهي بظهور جمال عبدالناصر في 1952.

ومن ثم يأتي «الإخوان المسلمين» في السبعينيات من القرن العشرين مستفيدين من فشل الثورة القومية العربية ويسيطروا على الساحة السياسية لتتجذر الحركات الأصولية الإديولوجية (السُنيّة منها والشيعية) في أنحاء العالم الإسلامي والعربي كافة... لينسى الوعي الإسلامي الراهن تراثه ويحنطه ويجمده ويهمله بل يتنكر له، حتى اعتقد وتخيل أن الأصولية والتشدد واللاعقل هي أصل الدين وجوهره... ليصبح الإرهاب عنوانه والاغتيالات الجسدية والفكرية منهجه و«الجهل المؤسس» (كما يصف أركون) نتيجته. وبذلك دخلنا في عصر الانحطاط الطويل الذي استمر إلى هذه اللحظة... بعد أن ماتت الفلسفة والعقلانية والإنسانية لينتصر التشدد والتعصب والانغلاق والجمود والتقليد... وهكذا كانت الأمور تسير عكس ما يحصل في أوروبا.

فعندما كنا مستيقظين كانوا هم نائمون وحين ماتت فلسفتنا عاشت عندهم وازدهرت حتى أوصلتهم إلى ما هم فيه من تقدم وتطور. الفرق بيننا وبينهم أنهم ظلوا متواصلين، منذ القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا، مع عقلانيتهم وإنسانيتهم (وحتى دينهم فعصر التنوير لم يلغِ الدين كما يعتقد الكثير بل حماه ورفع من شأنه)... أما نحن فكنا نطل بعقلانيتنا فترات قصيرة لنغيب كثيرا وننام كثيرا وننقطع كثيرا عن هذه الثقافة الإنسانية. وعلى الرغم من الانحرافات التي شابت العصر الكولونيالي من نازية وفاشية ودكتاتورية وعصر الرأسمالية الشرسة التي استعبدت الإنسان وابتعدت من خلالها عن المبادي الأساسية لعصر التنوير والنهضة... فإن النزعة العقلانية والإنسانية لديهم لا تفتأ أن تنتصر آخر المطاف، (وما فوز الحزب الليبرالي في الانتخابات الأميركية الأخيرة إلا خير دليل على ذلك)... هذا في حين أن العكس هو الذي يحصل لدينا حيث ينتصر التيار الظلامي على إنتاجات التراث الإنساني وإبداعاته... وهذا هو سر تفوقنا الانحطاطي عليهم. وها هو محمد أركون يطل بعقلانيته على العالم الإسلامي والعربي من خلال فلسفته ومشروعه الفكري الذي يعتمد فيه على المنهجية المعرفية لعلم الإنسان أو الأنثروبولوجيا (التي أهملت كثيرا في شرقنا بسبب تهديدها للفكر الأصولي)... ليعيد قراءة «اللا مفكر فيه» والمسكوت عنه في تراث المسلمين بعدما «عانوا قطيعتين كبيرتين»؛ الأولى، هي الانقطاع عن أهم ما أنتجه التراث الإسلامي وفلاسفته... والانقطاع الثاني، هو عن أفضل ما أتت به الحداثة الأوروبية: العقلانية والإنسانية. وها هو تاريخ ابن رشد يعيد نفسه... ليثير المؤدلجون الشبهات حول أركون ومشروعه النقدي ويحاربوه بل ويطالبوا بحرق كتبه كما حرقت الكثير من كتب المفكرين والفلاسفة كالمعتزلة وابن رشد... ليتحول الغرب إلى مرحلة ما بعد الحداثة ونتحول نحن إلى مرحلة «ما بعد الانحطاط»، إذا جاز التعبير... والسؤال: ماذا بعد الانحطاط والوصول إلى القاع؟ نترك الإجابة للتاريخ الذي خرجنا منه من أوسع أبوابه.

back to top