هذا الرجل السبعيني يختزل أكثر من ذلك بكثير في وعيه، يشبه البحر كثيرا، جميل وموحي وشديد الإغراء طالما أنت تتأمله من الساحل، ولكن حين تبحر فيه قد يبتلعك، وعندما تغوص في أعماقه قد يغريك البقاء إلى الأبد، وأنا أعتقد أن معظم من غرقوا في البحر، لم يكن ذلك رغما عنهم، بل انهم اختاروا ذلك عن عمد، لعدم قدرتهم على مقاومة ما اكتشفوه من جمال وإبداع هناك، وسحر لا تملك إلا أن تسلمه نفسك عن طيب خاطر.

Ad

كذلك أبوبكر سالم،

حضوره في أي مكان طاغٍ، يملأ المكان ألقاً، ويملأ الزمان عبقاً يأسرك دون أن تعرف كنهه، يملك «كاريزما» نادرة... ضخم تذكّرني ضخامته

بـ«بوذا»، وهو – أبو بكر- له أيضا هذا البعد الديني كما «بوذا» وإن كان بشكل مختلف، فهو أحد الحدود المشتركة القليلة بين الشيعة والسنة، وملتقى محبتهم، هو من بيت يقدّسه الشيعة، ويكرّمه السنة، «السيد» كما يحلو لأصدقائه ومقرّبيه منادته... يستهويني كثيرا حديثه، وكثيرا ما تمنيت في قرارة نفسي ألا يتوقف عن الحديث عندما أكون بحضرته، وهو فعلا له حضرة تأخذ البصيرة إلى سماوات أعلى، لاسيما عندما يبدأ ينفصل عن جلده ويحلق بأجنحة صوفية شاقا طريقه باتجاه النور، عبر الأناشيد والشذرات التي تفتح مغاليق القلوب، ثم وبدون أن يشعر تبدأ عيناه بذرف الدموع، وكأنما هو يغسلهما بذلك الدمع لتصبح أكثر صفاء، وقدرة على رؤية الطريق إلى أعلى!

عاشق للنور هذا الـ«أبو بكر»... وأظنها لم تكن صدفة أبدا أن يكون اسم «أم أصيل» نور... أو «نوران» كما يحب أن يدللها، تلك المرأة التي يعشق والتي قاسمته معظم العمر...

حديث «السيد» لا يقل جمالا عن فنه، وكلما تشعب حديثه، أغرتني الدهشة بالمزيد، الكثير من الحكمة، والكثير من المفاتيح التي تساعد على فهم الذات، كل ذلك يضعه «السيد» في متناول قلبك بكل بساطة وسلاسة لا تشعرك بمدى ضآلتك!

ذات ليلة كنت في «حضرته» نتجاذب أطراف الحديث، كنا لوحدنا، تحدثنا كثيرا في أشياء مختلفة، في ألبومه الذي يحضّر له، وفي الأدب، كما جرّنا الحديث إلى طفولته، وبيت «بلفقيه» في اليمن ويتمه، وشيخه الذي علمه وأترابه القرآن، والحساب وبعض العلوم البسيطة، وهو ذات الشيخ الذي اكتشف حلاوة صوته وراح يخبر جده بذلك...المهم أنه كان حديثا ذا شجون... إلا أنني أذكر أنه قال لي جملة مازال وقعها في نفسي حتى هذه اللحظة...

قال: أتعرف يا ولدي.. القناعة تخفف الوزن!

قلت له: كيف؟!

قال: إن الإحساس بالحاجة والرغبة في الامتلاك كما المسامير التي تثبت قدميك في الأرض، فلا تكون حرا، وتفكيرك محصور ومحدود دائما بتوفير ما تظن انك تحتاجه من هذه الحياة المادية، إلا أن القناعة هي من ينزع تلك المسامير لتصبح قادرا على التحليق والطيران كريشة، إلا أن الفرق بينكما أن الريشة لا تملك زمام قيادها، وإنما الريح، بينما أنت تقودك أجنحتك فقط.

لذا على الإنسان أن يتخفف من وزنه الزائد... بالقناعة!

لله ما أجملك أيها «السيد».