في «قولة» ـ وأصلها «كافالا» ـ نشأ «محمد علي»، يتيما وحيدا، في بلدة مفتوحة على البحر، لا يزيد عدد سكانها على بضعة آلاف، وينتمون إلى أعراق مختلفة. ومن هؤلاء تاجر الدخان الفرنسي «مسيو ليون» الذي راح يشجع الغلام اليتيم، أو ـ كما يقول جورجي زيدان» ـ : «حالما رأى محمد علي للمرة الأولى شفق عليه وأحب مساعدته لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يقدم له كثيرا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه، حتى ألفه محمد علي كثيرا، وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر، واستخدامه أفرادا منهم في مصلحة البلاد». وأشير إلى أن المقصود بـ»البلاد» في عبارة «جورجي زيدان» هو ولاية «محمد علي» التي كانت «مصر» قاعدتها.

Ad

ولا يبعد «إلياس الأيوبي» عما قاله «جورجي زيدان» إذ يقول إن مسيو ليون «استوقف انتباهه ذكاء الغلام الفطري النادر، وحسن حكمه على الأمور في شؤون قلما يدركها من كان في مثل سنه؛ فأحبه كثيرا، وأخذ يزوده بالنصائح والإرشادات الثمينة.... فكان لحب هذا الفرنساوي الأبوي أثر عميق في قلب محمد علي جعله، منذ ذلك الحين، ميالا إلى الفرنساويين أكثر منه إلى كل جنسية غربية أخرى».

والظاهر أن العلاقة بين «محمد علي» و»ليون» توثقت، وأن «ليون» علمه أسرار تجارته، حتى نجح «محمد علي» في تكوين ثروة لا بأس بها من تجارة الدخان. والظاهر أيضا أن العلاقة تواصلت، حتى خرج «محمد علي» جنديا في «الفرقة الألبانية» ضمن القوة العثمانية التي اتجهت إلى مصر 1801م بقيادة «القبطان حسين باشا»، لتضفي الشرعية على تدخل القوات الإنكليزية ـ بقيادة «أبر كرومبي» ـ في معركتها لإجلاء جنود الحملة الفرنسية عن مصر. وأصل الحكاية أن «إسماعيل « وهو «شوربجي قولة» ـ أي حاكمها ـ جاءه الأمر من السلطان العثماني بإعداد فرقة قوامها 300 رجل للخروج مع القوة العثمانية إلى مصر، وهي الفرقة التي جعل «الشوربجي» ابنه «علي أغا» قائدا لها، وأخرج معه «محمد علي» معاونا له، ولم لا وقد تربيا معا؟ كما أن «الشوربجي» كان قد زوج «محمد علي» ـ مكافأة له على شجاعته ومهارته في جمع الضرائب ـ من إحدى قريباته، وهي مطلقة ثرية تدعى»أمينة هانم» بنت «علي باشا» الشهير بـ»مصرلي» من أهالي قرية تتبع بلدة «دراما» المجاورة لـ»قولة»، والتي تقع معها ضمن مقدونيا اليونانية كما تعرف الآن. وقد أنجبت له ثلاثة ذكور تنطق أسماؤهم بوفاء «محمد علي»، حيث سماهم: «إبراهيم» باسم أبيه، و»طوسون» باسم عمه، و»إسماعيل» باسم الشوربجي الذي رباه. كما أنجب بنتين هما «توحيدة» و»نازلي». وهناك بعض المؤرخين يدعون أن «إبراهيم باشا» الفاتح الكبير والقائد العسكري الفذ لم يكن ابن «محمد علي»، وإنما ابن زوجته من زوجها السابق. لكن ذلك الزعم يبدده أسلوب «محمد علي» في اختيار أسماء أبنائه، ومن المنطقي أنه بدأ سلسلة الأسماء بـ»إبراهيم» وهو اسم أبيه.

في ميناء «أبو قير» اشتبك الأسطول الإنكليزي العثماني بالأسطول الفرنسي، في معركة أشرف فيها «محمد علي» على الغرق لولا أن «السير سيدني سميث» مد يده وانتشله من الماء، وآه لو عرف هذا القائد الإنكليزي أن الرجل الذي أنقذه سيواجه أسطول بلاده ويهزمه بعد 6 سنوات فقط، في ميناء آخر يقع على ساحل البحر الأبيض نفسه، هو ميناء رشيد. وآه لو عرف «محمد علي» أن الانكليز الذين يقاتل إلى جانبهم سيحتلون مصر ـ قاعدة ملكة ـ بعد 81 سنة!

على أية حال، فقد انتهت معركة «أبو قير» بهزيمة فادحة للفرنسيين، أجلتهم عن مصر. بعدها عاد «علي أغا» إلى قولة ـ ربما ليضمن نصيبه في ميراث حكمها ـ بينما فضل «محمد علي» البقاء، لا لأنه أصبح قائدا لفرقة فحسب، لكن ـ ربما ـ استجابة لنبوءة قديمة، حيث حلم في شبابه الأول بأنه شرب ماء نيل مصر كله، ولم يرتو. وبشره شيخ في «قولة» مفسرا الحلم بأنه سيملك «مصر» ولن يكتفي بها. وربما كان بقاؤه بناء على قراءة للواقع، دلت على صدقها ـ فيما بعد ـ الوقائع. فالفرنسيون ـ الذين شارك «محمد علي» في هزيمتهم ـ ظلوا يناصرونه، وحين ارتفع واليا على مصر بدلا من «خورشيد باشا» كان لهم الفضل الأكبر في حسم الأمر لصالحه وتصفية جيوب المقاومة، وأهمها «القبطان حسين باشا» قائده الأعلى بالأمس، الذي أقام ـ متربصا بـ»محمد علي» ـ في الإسكندرية لا يبرحها برغم انقضاء مهمته، ما أغرى «محمد بك الألفي»، القائد المملوكي المتمرد على الوالي الجديد، بأن يعرض على القبطان توحيد قواتهما والزحف ـ بمساندة أصدقاء «الألفي» الإنكليز ـ لإسقاط «محمد علي». وكاد القبطان أن يستجيب، خاصة وقد شجعه الإنكليز، وحذروه من مخالفة «الألفي»، لكن فرنسا ـ ممثلة في قنصليها بمصر: «ماتييه دي ليسبس»، و»دروفتي» ـ تدخلت ضاغطة لصالح «محمد علي»، كما ضغط السفير الفرنسي في «الأستانة» على رجال الديوان العثماني لصالحه أيضا، ما أعطى «محمد علي» مهلة كان في أشد الاحتياج إليها ليتم مظاهر سيطرته على ولايته، ثم يرسل هدايا كان لها فعل السحر، لتصدر الأوامر إلى القبطان العثماني «حسين باشا» بمغادرة الإسكندرية، التي أقلع منها في 28 من أكتوبر (تشرين أول) 1805 مصطحبا معه الوالي السابق «خورشيد باشا»، ويكتب القبطان في مذكراته: «إني أترك خلفي رجلا سوف يصبح، يوما ما، أكبر متمرد على الدولة العلية، وإن سلاطيننا لم يوفقوا البتة إلى سياسي داهية كهذا، ولا إلى رجل قوي العزم والحزم مثله».