-1-

Ad

أفرزت الانتخابات التشريعية الإسرائيلية أخيراً، حكومة يمينية متشددة جديدة، ربما تقضي على ما تبقى من آمال السلام في المنطقة، رغم أن أميركا (عرّاب السلام) منهمكة انهماكاً عميقاً في مشكلة السلام في الشرق الأوسط. وترى هذه القضية من أولوياتها في عهد إدارة أوباما، لعلاقتها بكسر حدة الإرهاب في المنطقة، وتحويل الشرق الأوسط إلى بحيرة ساكنة وآمنة. ففي ذلك أمن أميركا نفسها، وأمن مصالحها الحيوية في هذه المنطقة من العالم، ولعل قرار الرئيس الأميركي أوباما، بإنشاء مكتب دائم في إسرائيل أو في الضفة الغربية لجورج ميتشل، لكي يقيم في الشرق الأوسط إقامة دائمة، تمكِّنه من (حلحلة) الوضع هناك وفكِّ بعض العقد، دليل كبير على مدة اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة بقضية الشرق الأوسط، حيث لم يسبق لأي إدارة أميركية فعل ما فعلته إدارة أوباما.

-2-

لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفنُ، فقد فاز اليمين المتطرف الإسرائيلي («الليكود»، و«بيتنا إسرائيل»)، ومن المحتمل أن يشكلا الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وشعار هذه الحكومة الرئيسي، ألا أرض مقابل السلام، ولكن السلام مقابل السلام، وهذا ما سيرفضه العرب والفلسطينيون قطعاً، كما ينمُّ عن خوف إسرائيلي واضح من السلام، وفي الوقت نفسه، كان العرب منذ ستين عاماً ويزيد، يخشون السلام، ومازالوا حتى الآن يخافونه.

فلماذا يخاف العرب واليهود على السواء، من السلام في الشرق الأوسط؟

-3-

هناك عدة أسباب تاريخية وسياسية للخوف من السلام، يمكن أن نلخصها بالتالي:

1- يخشى الإسرائيليون السلام، لأن السلام يُظهر اليهود أمام العالم بأنهم كذابون، ويخالفون أسطورتهم التاريخية. وأسطورتهم التاريخية تقول، إن الفلسطينيين مجرد «أغيار» محتلين، تمَّ تحرير أرض الميعاد منهم، وألا مكان لدولة بين الأردن وفلسطين. والسلام، سوف يضع إسرائيل في وسط البحر العربي العارم، وسوف يذيب دولة إسرائيل في النهاية، ولا شك أن السلام سيكون سبباً في إقامة حرب أهلية في إسرائيل بين الأصوليين اليهود والعلمانيين، وستفقد الدولة العبرية بالسلام العطف الدولي والتعاطف الإعلامي الدولي، حيث ستصبح دولة إسرائيل آمنة، ولا خطر عليها.

2- وكما يخشى الإسرائيليون السلام، فإن الفلسطينيين كذلك يخشون السلام لسبب تاريخي آخر كذلك. فالفلسطينيون يخشون السلام، لأنه سيهزم ويمحو الأسطورة الفلسطينية القائلة بتحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، كما أكد ذلك ميثاق «حماس» 1988، ومحو إسرائيل من خارطة العالم، كما يطالب أحمدي نجاد الآن، وإقامة الدولة الفلسطينية.

3- إن نتيجة المفاوضات التسويفية المؤلمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أثبتت للفلسطينيين حتى قبل نزاعهم الحالي مع بعضهم بعضاً، واحتقار إسرائيل للفلسطينيين، ومراوغتها، وتهربها من الالتزام بالمواثيق، وإملاء شروط قاسية، قد أكد اليقين لدى الفلسطينيين، بأن إسرائيل لا تريد السلام، وتمانع في إقامة دولة فلسطينية مجاورة لهم. مما دفع الفلسطينيين إلى اليأس، واعتماد الحل الدموي الانتحاري الجاري الآن.

وبذا، أصبح السلام بالنسبة لمعظم الفلسطينيين سراباً خادعاً. ولا حلَّ للحياة لدى الفلسطينيين إلا بالموت على النحو الذي يجري الآن، ومنذ سنوات طويلة.

4- يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر، إن من عوائق السلام العربي-الإسرائيلي وجود الذهنية الزراعية لدى الإنسان العربي، وهي الذهنية ذات الإحساس الضعيف بالزمن الخطّي؛ أي التصاعدي. وهي حال الشعوب التقليدية التي هي سجينة المفهوم الدائري للزمن الذي يكرر نفسه، عوداً على بدء، مع عودة الفصول والمواسم. فهناك استهتار عربي بالزمن كما شاهدنا بوضوح في محادثات كامب ديفيد بين عرفات وباراك وكلينتون في 1999. («الخوف من السلام»، جريدة «الحياة»، لندن، 21/1/2001) و(انظر: شاكر النابلسي، «محامي الشيطان»، ص254، 2005).

5- توجد في العالم العربي أزمة النخب الحاكمة في الشرق الأوسط، وهذه تُعبّر عن نفسها في عجزها المتزايد عن السيطرة على الأحداث، وهذا العجز يُعتبر أساساً لغياب الشجاعة السياسية حين اتخاذ القرارات التاريخية، فصاحب القرار السياسي أمام موقفين: إما الفرار من مسؤولياته مجاراة لمزاج جمهوره، وإما مواجهة خطر مواجهة هذا الجمهور بلغة الحقيقة، والسياسي لا يكون شجاعاً إلا إذا اقتنع بأن تحقيق أهدافه السياسية أهم من مهنته السياسية، وهذا هو البطل السياسي الذي يعطي لحياته معنى بتحقيق مشروعه ومثاله الواضح الحبيب بورقيبة، وهو مثال نادر في الشرق الأوسط المسكون بالتهور والجبن السياسيين، لا بالشجاعة السياسية.

6- امتزاج السياسة بالدين في العالم العربي، ولدى اليهود أيضاً. وكذلك امتزاج العوامل النفسية بالسياسية، وامتزاج المصالح بالأيديولوجيا، وامتزاج الوقائع بالمخاوف، وامتزاج الحقائق بالخيالات.

7- تحكم اللامعقول بالعقول، وتفضيل المجتمعات في العالم العربي مبدأ اللذة على مبدأ الواقع، وأخذ الثأر على أخذ الحق، وتبني «وقفة العز» نتيجة لانتصار جزئي.

8- وجود قيادات في العالم العربي وفي المقاومة الفلسطينية مأزومة، خائفة من السلام، تقودها الأحداث، ولا تقود الأحداث، كما هي الحال الآن.

9- وجود أيدٍ لصبيان السياسة، تلعب في أعواد الثقاب، قرب براميل البارود. وحيث القرارات المصيرية، لا تصنعها المؤسسات بل أفراد كما هي الحال في فلسطين الآن. وهؤلاء الأفراد، لا يمكن التنبؤ بنزواتهم الشخصية، وشطحاتهم الإيديولوجية، أو الصوفية.

10- انتخاب قيادة فلسطينية ذات مصداقية وتمسكاً بالوعود التي تعطيها. فالعالم العربي والقيادة الفلسطينية كانت تصنع قرار الرجل الواحد، وليس قرار المؤسسات السياسية، ويتم اتخاذ القرار في لحظات، دونما تحليل للمعطيات، أو أدنى قدرة على توقع مجرى الأحداث، واقتناص الفرص النادرة، فمعظم القيادات في العالم العربي تفضل الارتجال على التخطيط، ورد الفعل على متابعة الأهداف المرسومة بصبر، والتكتيكات المتناقضة على الاستراتيجيات المدروسة، والحلول السهلة على التفكير في الواقع المضاد.

11- إن القرار السياسي الخارجي في العالم المعاصر مرصود للتأثير في عالم بالغ التعقيد وغير سهل التوقع. لذا، يتطلب شروطاً، أولها أن تتقاسم المؤسسات المختصة العمل على صنعه. وهكذا لا يعود ثمة من احتمال لإرادة الحاكم الفرد اللامبالي بالمعطيات الموضوعية والضرورات الدبلوماسية والاستراتيجية.

12- وأخيراً، ففي المجتمعات العربية، تتم صناعة القرار من قبل الحاكم ومزاجه المتقلب، أما في المجتمعات الراشدة، فالمؤسسات هي التي تصنع القرار في أناة، وهي التي تحدد أهدافه ووسائل تحقيقه الملائمة، فما المؤشرات الجدية على أن حكومة تصنع وتتخذ قرارها حسب المواصفات المطلوبة في عصرها؟ إنها تفاديها انفجار الأزمات والتحكم بها بالعودة إلى المفاوضات، إذا حدث وانفجرت. لأن العودة إلى المفاوضات هي دائماً هدف صنّاع القرار المعاصر وأصحابه، وفي جميع الأحوال الوقاية من عواقبها، وعدم الانجرار في دوامتها. وكلما كان توقع الأحداث متدنياً أو خاطئاً كانت تكاليف التصحيح غالية، إن لم يغدُ التصحيح إشكالياً. وهو ما يحدث كثيراً، وغالباً عندما تكون صناعة القرار واتخاذه لايزالان في الدرجة الصفر من تطورهما، كما كانت الحال على الساحة الفلسطينية، التي تطلبت إعادة هيكلة حقيقية، حيث تآكلت شرعية القيادة الفلسطينية داخلياً وخارجياً.

* كاتب أردني