-1-

Ad

عندما رحل الاستعمار عن العالم العربي في القرن العشرين، ظنَّ العرب أنه ما إن يخرج الاستعمار من المنطقة حتى يكون العالم العربي مهيئاً للدخول في عهد الحرية، والديمقراطية، والرخاء الاقتصادي، والانفتاح الاجتماعي والثقافي، وأن الاستعمار في الماضي، كان سبباً في كتم الحريات ومصادرتها، وانتشار الطغيان والاستبداد، وأن الديمقراطية السياسية لم ترَ النور في العالم العربي، نتيجة لسيطرة الاستعمار وإعدامه للزعماء السياسيين، ورميه للمعارضة السياسيـة في غياهب السجون، وأن الجوع والتخلف والجهل، كانت من أبرز مظاهر الاستعمار في الحقبة الممتدة من 1918- 1970، وأن العالم العربي شهد خلال هذه الفترة تدهوراً حضارياً كبيراً في مناحي الحياة كافة.

-2-

ولكن كثيراً من المثقفين أصيبوا بفاجعة كبيرة، وخيبة أمل مفزعة في الدولة الوطنية، عندما رأوا الاستعمار يرحل عن العالم العربي، وتتولى الدولة الوطنية زمام الأمور، فتتدهور الحياة السياسية في العالم العربي إلى درجات أحط مما كانت عليه أيام الاستعمار، وتُصادَر الحريات بطريقة أبشع مما كـانت عليه أيام الاستعمار. وكما قال المفكر القومي الأردني منيف الرزاز «فعلى الرغم من أن المجتمع الشرقي لم يعرف الحرية بمعناها الحديث سابقاً، فلقد كان استعباده مع ذلك على يد حكامه شيئاً آخر لم يدعه إلى الثورة الجماعية من أجل الحرية، كما فعل حين استعبده الاستعمار الغربي» ( الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ص 528).

وانتشر الفساد السياسي والإداري والاجتماعي في الدولة الوطنية بشكـل أكبر مما كان عليه أيام الاستعمار، وجاع الناس أكثر من جوعهم أيام الاستعمار، وبقيت نِسب الأميّة في العالم العربي كما كانت عليه أيام الاستعمار.

وكان الاستعمار في الماضي، قد بنى المدارس والمستشفيات والطرق، وشجع الزراعة، وفتح البنوك، ونظَّم الحياة الاقتصادية والإدارية في الدولة. رغم أن الناس كانوا غير مرتاحين لمثل هذه القوانين والتنظيمات، وكانت معظم هذه الخطوات لمصلحة الاستعمار وضماناً لأهدافه السياسية والاقتصادية، فقد كان الاستعمار بحاجة إلى قوانين جديدة وإلى تنظيم مجتمع يتناسب مع غاياته العسكرية والسياسية والاقتصادية. ومازال كثير من النظم الإدارية المعمول بها في العالم العربي من النظم التي وضعها الاستعمار دون تغيير، وكل ما طرأ عليها كان التطبيق السيئ لها بفضـل الفساد الإداري، وعدم وجود آليات الحساب والعقاب في الدولة العربية الوطنية.

-3-

ومن هنا، بدأنا نسمع بين صفوف المثقفين من كان يترحَّم على أيام الاستعمار، وما أقام، وأنشأ، وبنى، وعمَّر. وكانت هذه الأصوات تقول لو أن الاستعمار أنصف في تلك الحقبة بمعنى أنه قسَّم الرغيف الوطني بينه وبين أبناء الوطن، ولم يأكل الرغيف الوطني كله، ويُحرم أبناء الوطن منه ويتركهم في الجوع، وفتح نوافذ الحرية، وجاء لا ليضطهد، ولكن ليُعمِّر، ويستثمر، ويُفيد، ويستفيد لكان حال العالم العربي الآن أفضل مما هو عليه الآن. ولكن الاستعمار كان بحاجة إلى أن يحافظ على نفسه وعلى مصالحه، بمقاومة كل ما من شأنه أن يهدد هذه المصالح.

-4-

وقالت مجموعة من الباحثين: «أصبحت احتمالات عودة الاستعمار مفتوحة. وأن هذه الاحتمالات لن تلقى معارضة أخلاقية أو مبدئية، كما كان يمكن أن تلقى في الماضي، لأن كثيراً من التحفظات الأخلاقية والمبدئية للاستعمار الغربي قد زالت عندما بدت على خطأ، فجلاء الاستعمار عن إفريقيا وآسيا لم يقدهما إلى الرخاء والحرية، بل قاد إلى مزيد من الفقر والتخلف ومزيد من القهر والاضطهاد، فقد نشأت بعد الاستقلال أشكال جديدة من العبودية السياسية والاقتصادية والاجتماعية». (رياض الريّس وآخرون، «عودة الاستعمار»، ص 25).

لا مجال للشك، بأن عودة الاستعمار إذا تمت مستقبلاً، فإنها ستتم على أساس حماية مصالح الغرب الاقتصادية و«الطاقوية» في العالم العربي، وعلى رأسها البترول العربي. كما ستتم هذه العودة على أساس أن وجود إسرائيل يشكل رأس حربة وقاعدة عدو مسلح مستمر ضد كل ما يمكن أن يشجع على النهضة العربية، كما قال المفكر الماركسي المصري أنور عبد الملك (الفكر العربي في معركة النهضة، ص 144).

-5-

ولا ريب في أن الاستعمار في الماضي رحل عن مناطق كثيرة من العالم كالجزائر والمغرب العربي وفيتنام والهند وعدن وغيرها من المناطق الأخرى، بعد أن أمسك بآلته الحاسبة وجمع وطرح وأجرى حسابات دقيقة وجد على إثرها أن إقامته هنا وهناك فيها خسارة مادية لا تستأهل الاستمرار في الإقامة كمستعمر داخلي، وأن عليه أن يغيّر استراتيجيته، ويتخذ أداة «استعمارية» جديدة تخفف عنه تكلفة الإقامة الدائمة داخل مستعمراته، بحيث لا يدفع مالياً وبشرياً أكثر مما كان يأخذ، فيما اعتُبر ذلك من قبل القوميين والمناضلين انهزاماً للاستعمار، ودحراً له، ونهاية لعهده. في حين أن الاستعمار كان قد خرج من الباب ليدخل من الشباك لا «بسبب» مكره وقوته وألاعيبه كما يقول القوميون، ولكن «بسبب» أننا مازلنا أمة ضعيفة، هشَّة الكيان، ذات ظهر مقوَّس و«حيطة واطية»، ومازلنا غير مُستقلين وغير مكتفين بأنفسنا مادياً وثقافياً وغذائياً وصناعياً وزراعياً وتكنولوجياً وخلاف ذلك، وأننا بحاجة إلى الغرب، وأن سير حياتنا متوقف على علاقتنا الطيبة مع الغرب، ومدى ما نُقدمه للغرب من وسائل وتسهيلات لسير الحياة الغربية وتيسيرها، وأن الاستعمار لا ينبت إلا في أرض لديها خصوصية «قابلية الاستعمار» كما عبَّر عن ذلك المفكر الجزائري مالك بن نبي، وأن الاستعمار لا يمكن له أن يستعمر شعباً إلا إذا كان هذا الشعب لديه الاستعداد الذاتي لتقبُّل الاستعمار. وقد كان كذلك وضـع الجزائر على سبيل المثال، كما هو وضع معظم الشعوب العربية والإسلامية، فيما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي.

-6-

ومن هنا نقول، إن الاستعمار لم يرحل عن العالم العربي، وإنه يعود في كل يوم بأشكال وأقنعة جديدة، وأن الزمن سيطول جداً في بقاء العالم العربي مرتبطاً استعمارياً بالغرب كلما تقدم الغرب وبقينا نحن «مكانك سِرْ»، أو تراجعنا إلى الخلف، كما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين، حين اضمحلت الحرية، وتراجعت الديمقراطية، وانتشر الفساد، وعمَّ الخراب والفوضى والحروب والجهل والأمية أرجاء مختلفة من الوطن العربي. وقد تنبه إلى هذا كله بعض المفكرين السياسيين العرب حين لخصوا ذلك كله بقولهم: «إن شعـوب العالم الثالث ودوله التي حققت بنضالها القومي المتواصل استقلالها السياسي كان لابد أن تكتشف الخدعة الكبرى التي وقعت فيها، وكان لابد أن تتابع نضالها حتى تحقق تحررها الاقتصادي والاجتماعي».

* كاتب أردني