أزمة الوسطية في عالم مضطرب

نشر في 02-03-2009
آخر تحديث 02-03-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري أقام «منتدى الوسطية» في لبنان مؤتمره الدولي الثاني للوسطية، في رحاب مدينة طرابلس في الفترة 20 – 21 فبراير 2009 بعنوان «دور وسائل الإعلام في تعزيز ثقافة الوسطية».

«منتدى الوسطية»، الذي أسسه ويشرف على أعماله، الرئيس نجيب ميقاتي- رئيس وزراء لبنان الأسبق- معني بفكر الوسطية وثقافته، باعتباره «مشروع الإنسانية الحضاري»، إنطلاقاً من أن الوسطية هي «فكر وعقيدة ونهج يشمل كل مكونات الحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية»، كما جاء في الكلمة الافتتاحية لراعي المؤتمر الرئيس ميقاتي. لقد استقطب المؤتمر نخبة من المفكرين واجتذبت جلساته جمهوراً غفيراً من أهل طرابلس شاركوا في إثراء الجلسات، وكانت لي مشاركة بورقة نقدية حول «الوسطية في الخطاب الديني الإعلامي، كيف يجب أن تكون؟!».

يأتي هذا المؤتمر في سياق تصاعد الاهتمامات بثقافة الوسطية كعنصر رئيسي في تحصين الناشئة لمواجهة موجات التطرف التي تعصف بالمجتمعات العربية وتستنزف مواردها البشرية والمالية، لذلك شهدت الساحة، وعلى امتداد السنوات بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، نشاطاً متزايداً حول إقامة مؤتمرات للوسطية، إضافة إلى إقامة مراكز متخصصة لنشر الوسطية، منها المركز العالمي للوسطية في الكويت، الذي رُصدت له موازنة ضخمة، وهناك في الأردن المنتدى العالمي للوسطية، وهكذا في بقية الدول العربية.

كل هذه المراكز والمنتديات حول الوسطية وثقافتها، استدعتها المنعطفات الخطرة التي تمر بها المجتمعات العربية، نتيجة تصاعد موجات العنف والترهيب والتدمير التي ألحقت أبلغ الضرر والإساءة بصورة الإسلام والمسلمين، وتسببت في استشراء نزعات التعصب الطائفي والإيديولوجي التي مزقت عناصر مكونات المجتمع الواحد، وخلقت صراعات داخلية أدت إلى فساد ذات البين والمزيد من الانقسامات العربية.

لقد استيقظ العرب بعد طول سبات ليواجهوا «فكراً» مغالياً عدائياً لا للحضارة المعاصرة والانفتاح عليها والتواصل مع شعوبها فحسب، ولكن أيضاً معادياً لثقافة الأمة وفكرها، متمرداً على مجتمعاتها أنظمةً وحكاماً وشعوباً، «فكر» فوضوي مدمر لا يقيم وزناً لحياة إنسان ولا يأبه بأي كرامة إنسانية يستخف بحياة البشر ويستحل قتلهم بالجملة، هذا الفكر الذي قال عنه د. فضل- منظر الجهاديين- بعد أن انقلب عليه: إنه فكر تمكن من اختراق كل الحواجز الدينية والأخلاقية، وانتهك كل المقدسات، فلم يتورع عن التفجير في مسجد أو مستشفى أو مجلس عزاء أو جنازة، فضلاً عن محطة ركاب مكتظة بالعمال الكادحين أو مطعم شعبي يغص بالبسطاء البائسين، لقد مثل هذا الفكر الدموي الضلالي مذهباً إجرامياً لتأصيل فقه «الإسراف في سفك الدماء بالجملة».

التساؤلات الملحة على خلفية هذه المؤتمرات والمراكز حول الوسطية هي: هل هذا الانبعاث الجديد للوسطية يمثل صحوة جديدة، أم هو وليد رد فعل للأحداث الإرهابية، أم هو نتيجة ضغط المجتمع الدولي؟ نحن نعلم أن ديننا دين الوسطية، ورسولنا، عليه الصلاة والسلام، رحمة مهداة، وتعاليم الإسلام قائمة على الوسطية، فالوسطية هي «العدل»، والإسلام دين العدل في المجالات كلها: بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، بين أشواق الروح واحتياجات الجسد، بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بين ثوابت الدين والوطن، ومتغيرات العصر ومتطلباته، كل هذا معروف ومكرر. كما أن العلماء والمفكرين والمجددين، منذ الإمام محمد عبده وعبر قرن كامل وإلى اليوم، هم من أهل الوسطية والاعتدال، قد جاهدوا في غرس مفهوم الوسطية ونشرها، فلماذا أصبحت مجتمعاتنا تعاني اليوم موجات التطرف والعنف؟ّ! لماذا أصبح مد الغلو والتشدد والكراهية متنامياً في المنطقة؟! لماذا أصبحنا نرى وعبر الساحة الممتدة مشاهد عنف وتفجير وإزهاق للأرواح تنسب للإسلام والإسلام منها براء؟! لماذا استطاع دعاه التطرف كسب عقول وقلوب جماهير عريضة من المسلمين؟! كيف تمكنوا من تجنيد واستثمار طاقات شباب المسلمين في مشاريعهم الدموية؟! لماذا أصبح العالم متوجساً من الإسلام والمسلمين؟!

هذه التساؤلات القلقة تفرض على مؤسساتنا ومنابرنا الدينية والتعليمية والإعلامية تحديات كبيرة، لماذا لم تثمر جهود تلك المؤسسات والمنابر على امتداد نصف قرن في تعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح- برغم ضخامة الموارد المرصودة وطول هيمنة العلماء عليها- بينما أثمرت منابر ومؤسسات الغلو؟! تلك المؤشرات والدلائل كلها تؤكد أن الخطاب الوسطي أخفق إخفاق ذريعاً في 4 ميادين أساسية هي: 1- تحصين المجتمعات ضد أمراض التطرف. 2- تفعيل القواسم المشتركة بين المذاهب الإسلامية وإصلاح فساد ذات البين. 3- تقديم صورة حضارية عالمية للإسلام. 4- استثمار طاقات الشباب في تنمية المجتمعات الإسلامية.

وبرغم هذه الإخفاقات لايزال الخطاب الوسطي منكراً لها، يبحث عن معاذير ومبررات ويلوم الآخر الحضاري ويُحمِّله المسؤولية، إن التاجر الذي يقيم مشروعاً تجارياً ثم يفلس في النهاية، لا ينبغي له أن يلوم الآخرين، عليه مراجعة عوامل الخلل للبدء من جديد.... ترى أين الخلل، هل هو في الدعاة أم في مضامين الخطاب الوسطي أم في الثقافة المجتمعية؟!

في تصوري، أن عوامل الإخفاق عديدة ولكن أهم هذه العوامل، «عدم المصداقية»، فقطاع بارز من دعاة الوسطية ورموزها كتبوا عن الوسطية وتغنوا بها، لكن سلوكياتهم كانت مناقضة تماماً لها، كانوا يطالبون الناس بعدم التهافت على حطام الدنيا وهم أكثر الناس تهافتاً عليها، كانوا يحذرون الناس من ارتياد أبواب السلطان وهم أكثر الناس تزلفاً لها، كانوا ينظمون أجمل القصائد في حقوق المرأة و قضاياها وهم أبعد الناس عن تعاليم الإسلام سلوكاً و تعاملاً معها، كانوا يتفاخرون بأن الإسلام دين التسامح والحوار وهم أنفسهم كانوا يضيقون بالمخالفين لهم لا يتورعون عن اتهامهم وتخوينهم وتكفيرهم، وقد رأينا رموزاً للوسطية يشهدون مؤتمرات للوسطية حتى إذا انقلبوا إلى قواعدهم أصبحوا دعاة للإقصاء ترضية للمريدين والأنصار، ثم إن التاريخ الفكري والمواقف السياسية لطائفة من دعاة الوسطية، «متلونة» فهم يجيدون ركوب الموجة، ماهرون في مخاطبة الجماهير واللعب بعواطفها والتظاهر بشعار الوسطية، لكنهم دون ذلك على مستوى السلوك والتعامل والممارسة.

أما أوجه الخلل في الخطاب الوسطي فعديدة منها: أن مفهوم هؤلاء للوسطية، تغلب عليه الصفه الإيديولوجية، فحتى تكون «وسطيا» عليك تعظيم مثالب الغرب، وعليك تمجيد انتصارات «حزب الله» و«حماس»، وإذا أدنت الإرهاب، عليك تبريره بالمظالم الأميركية وبقهر الأنظمة أو التعذيب في السجون أو الغلو العلماني، وإذا انتقدت التكفيريين، التمست لهم عذراً فهم فئة آمنت بربها، لكنها أخطأت الطريق بسبب المد التغريبي الصليبي والهيمنة العلمانية على وسائل الإعلام، لايزال الخطاب الوسطي، ماضوياً يعيد إنتاج مقولات القدامى بحثاً عن حلول لمشكلات الحاضر، وهو خطاب «تمجيدي» للمآثر والانتصارات التاريخية، تغلب عليه الصفة الذكورية «إقصائي» للآخر المخالف و«اتهامي» و«تحريضي» ضد المخالفين، وهو خطاب «تعبوي» نجح في شحن وجدان الجماهير لكن من دون بصيرة، وهو خطاب «آحادي» يحتكر الحقيقة ويرفض المنهج النقدي، و«مثالي» يتحدث عن التسامح ويتجاهل واقع المسلمين غير المتسامح، يُغيِّب دور العلم والعقل ويحاول إقناع الناس بأن الزلازل والأعاصير عقوبه إلهية، «تبريري» يتهرب من المسؤولية. إننا مع الفكر الوسطي لكن بعد مراجعته وتخليصه من عوائقه وذلك لا يكون إلا بإحياء النزعة الإنسانية المغيبة، وإعلاء حقوق الإنسان، والانفتاح على الثقافات، وتعزيز قيم المواطنة والانتماء، واحترام التعديدية، وتبني المنهج النقدي، تلك هي العناصر البارزة التي يجب تضمينها الخطاب الوسطي الجديد... وإنني على يقين أن الوسطية هي الرهان المستقبلي، وهي الخيار الذي لا خيار آخر عنه، ولكن لابد من منهجية وآليات وخطط تتغلغل داخل النسيج التربوي والتعليمي والإعلامي والدعوي.

* كاتب قـــطري

back to top