لا يمكن لأي عابر بتاريخ الأدب الإنكليزي أن يمر غافلا عن أسماء (الأخوات برونتي)، وذلك لأنهن تركن، بأعمالهن الروائية المميزة، بصمات حادة وظاهرة في سجله، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. ومن بين هؤلاء الأخوات الماكثات على منصة الذكر الخالد والتكريم المتواصل، تقف «أميلي برونتي» في المقدمة، على الرغم من أنها لم تنجز خلال حياتها كلها سوى رواية واحدة هي «مرتفعات ويذرنغ» التي قدر لها أن تحظى بالشهرة الواسعة بين القراء من مختلف الأجيال، سواء بوصفها رواية مطبوعة، أو بوصفها عملا مقتبسا للتمثيل في العديد من الأفلام السينمائية أو المسلسلات التلفزيونية.

Ad

ولعل «أميلي برونتي» لم تكن لتحفل حتى بنشر هذه الرواية أو غيرها من كتاباتها الشعرية المبكرة، لولا الدفع الدائب من قبل أختها الأكبر «شارلوت» صاحبة الرواية الشهيرة «جين آير». وذلك لأن هذه الكاتبة المثيرة للضجة على مر السنين، كانت في حياتها الخاصة بعيدة كل البعد عن الثرثرة، ومتصفة بالتزام الصمت إلا في ما ندر من المناسبات!

وهذه الصفة، التي تكاد تكون أبرز مميزاتها، هي ما وقع عليها الإسباني «خافيير مارياس»، عند تشريحة لطباع ومسالك عدد من أشهر الكتّاب والكاتبات في العالم في كتابه «حيوات مكتوبة». وهو إلى جانب تأكيده على تدرعها بالصمت أو الإيجاز المغيظ يكشف لنا عن أن صمتها وهشاشتها البدنية واعتلالها الدائم، هي أمور كانت تخفي وراءها روحا متصفة بالحزم والحسم إلى درجة القسوة المفرطة.

إن حياة أميلي برونتي كانت قصيرة وصامتة، وهي الآن، بفعل تقادم الزمن قد صارت أكثر صمتا، لكن ذلك يم يوقف كتّاب السيرة من مواطنيها عن إعادة رواية قصة حياتها في مجلدات ضخمة لا تحتوي في معظمها إلا على الفراغ، أي أنها لا تلمس الأبعاد الخفية الغائرة في شخصيتها أو في طوايا حياتها الأسرية.

أول ما يذكر في هذا الشأن هو أن تاريخ الأدب يهتم دائما بذكر ثلاث أخوات فقط من عائلة برونتي، لكنه ينسى كثيرا أن الأخوات قد كنّ خمسا في الحقيقة، وأنه ينبغي أن يضاف إليهن أيضا شقيقهن «برانويل»، الذي مهما قيل عن كونه سكيرا ومسببا للكوارث، فإنه كان رجلا ذا أهمية كبرى في حياة الأخوات الأكثر شهرة.

أما الأختان اللتان لا يذكرهما أحد فكانتا تدعيان «ماريا» و«إليزابيث»، وقد ماتتا بالسل واحدة بعد الأخرى، وهما لا تزالان طفلتين ولعل ما عجل في نهايتهما هو المعاملة القاسية التي كانتا تتلقيانها من معلماتهما قبل وقت قصير من وفاتهما، إذ كانتا تُضربان وتُهانان وتُجبران على مغادرة فراشيهما على الرغم من مرضهما الشديد!

الأجيال اللاحقة- وبضمنها دون شك فئة من كتّاب السير الفارغة- قد أصدرت على أميلي بالاسم، حكماً غريبا ينطوي على لومها وتأنيبها بشأن وفاة أختيها!

ذلك الحكم يقول إنها بالرغم من كونها تتمتع بحظوة في المدرسة، فقد أخفقت في «التشفع» من أجل الضحيتين، والتزمت الصمت أمام ذلك الظلم المطلق!

ومن الواضح أن ذلك الحكم كان جائراً وذلك لأن مؤلفة «مرتفعات ويذرنغ» لم تكن في ذلك الحين قد تجاوزت السادسة من عمرها، أي أنها كانت أصغر بخمسة وبأربعة أعوام، على التوالي، من أختيها المريضتين اللتين تأتي بعدهما «شارلوت» ثم الشقيق «برانويل» ثم «أميلي» وبعدها «آن» الصغرى!

ولا نعلم ما إذا كان من شأن الأختين الراحلتين، لو طال بهما العمر، أن تنضما إلى ركب الأسرة الأدبي، لكننا نعلم أن الأخوات الثلاث الناجيات قد أصبحن جميعهن روائيات ناجحات، فيما أصبح شقيقهن «برانويل» مجرد شاعر خائب وعديم الأهمية.

والدة هؤلاء توفيت عندما كانت «أميلي» في الثالثة من عمرها، وقد قام على تربيتهم والدهم الإيرلندي المولد، وهو نفسه، بحكم كونه كاتبا للمواعظ والخطب، لم يكن بعيدا عن مجال الأدب.

أما الأقرباء الأقل ورعا، فقد أدخلوا الشقيقات إلى عالم التعاليم الشفاهية بكل ما يختزنه من حكايات حول الأشباح والأرواح الحارسة والعفاريت، وذلك بلا ريب هو ما وفر الاتصال الأول لأميلي بموضوع القوى الخارقة للطبيعة الذي نراه يرفرف في روايتها الوحيدة من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.

وفي ما يتعلق بصمت أميلي، فإنه قد سبب لها كثيرا من المنغصات، كما وصمها بالتكبر والعجرفة، فمنذ مراهقتها كانت إجاباتها عن الأسئلة التي توجه إليها لا تتعدى عبارة عن مقطع واحد، أو أنها كانت لا تجيب إطلاقا، الأمر الذي دعا بعض الناس إلى اجتنابها.

ومع ذلك فإنها كانت الابنة المحببة لدى أبيها، والواقع يؤكد أنه قد علمها كيف تستخدم المسدس، وكثيرا ما كان يصطحبها لإطلاق النار على الأهداف، الأمر الذي أصبحت مدمنة عليه!

وإضافة إلى هذا، فإن هناك مصادر، قد لا تكون صادقة، ترى أن السيد برونتي كان متزمتا ومتقشفا وغريب الأطوار، ومن دلائل ذلك أنه، لفرط حماسته في هذا الشأن، كان يمنع بتاتا من أكل اللحم، ويحكم عليهن بنظام غذائي عماده البطاطا، ويقال إنه، عندما اكتشف ذات ليلة ممطرة، أن بناته كن ينتعلن أحذية أنيقة أعطتها لهن إحدى الصديقات، عمد إلى إحراق تلك الأحذية باعتبارها مترفة أكثر من اللازم، كما أنه مزق، مرة، ثوبا حريريا كانت زوجته تحتفظ به في صندوقها للفرجة أكثر منه للبس، وفي إحدى المرات عمد إلى قطع ظهور عدد من الكراسي بالمنشار، ليحولها إلى مقاعد للحمام!

وإذا كانت تلك الروايات حقيقية كلها، فإنها تعني ضمنا أن الشقيقات قد أثبتن صلابة ومنعة، حين لم يلجأن مثل شقيقهن إلى تعاطي المسكرات.

وبغض النظر عما إذا كانت تلك المعلومات صحيحة أم لا، فقد كان هناك أمر واحد واضح في شأن هذا الرجل، هو أنه كان حنونا بشكل مفرط نحو بناته، وأنه قد حمل المشقات من أجل أن يوفر لهن التعليم المناسب.

يُحكى أن السيد برونتي سأل ابنته «أميلي»، ذات يوم، عما ينبغي له أن يصنع مع شقيقها «برانويل» بعدما أصبحت أفعاله بغيضة وصعبة الاحتمال.

كان ردها هو التالي: «حاول إقناعه بالمنطق، وإذا لم يصغ إلى كلام المنطق... فاجلده»!

كان عمر أميلي ست سنوات، عندما أشارت على أبيها بهذا الرأي!

ولعل في ذلك ما يوضح أنها قد كان لديها نزوع للتدابير العنيفة، وهناك دلائل كثيرة على ذلك منها أنها عندما كانت أكبر من ذلك قليلا، قد سددت لكمة قوية إلى وجه كلبها حتى انتفخت عيناه بالورم، وذلك لإيقافه عن القفز نحو رقبتها بعد أن أنّبته بقسوة، وفي مناسبة أخرى عملت على فض اشتباك بين الكلب نفسه وكلب متشرد، وذلك بنثر الفلفل في أنفيهما!

كُل هذا يدل على أن أميلي، برغم صمتها، كانت امرأة حاسمة جدا، وعليه فإنه ليس من باب المصادفة أن تدعوها شقيقاتها باسم «الرائد»... وهو اسم غير مشتق من الريادة في أي شيء بل يعني «الرتبة العسكرية» تحديدا بما تمثله من صرامة.

ومع ذلك فإنها كانت توصف بكونها مخلوقة هشة البنية متقلقلة الصحة، لا تنام إلا قليلا، لفرط غرامها بالليل، فقد كانت تريد أن تستمتع به إلى آخر حد.

في عام 1848 توفي الشقيق «برانويل» دون أن تبذل «أميلي» جهدا حقيقيا في العناية به خلال فترة مرضه الوبيل، فهل كان هذا مسوغا لما يقال عن أنها لم تعرف شيئا عن العواطف الجياشة التي وصفتها بمهارة في «مرتفعات ويذرنغ»... أم أن الأمر ينبغي أن ينظر إليه من زاوية أنها هي نفسها قد كانت معتلة الصحة بالأصل.. روحا وبدنا؟

لعل ما يعزز هذا الرأي هو أنها توفيت بعد أخيها بثلاثة أشهر لا أكثر، وأنها خلال فترة مرضها رفضت بشكل قاطع أن يراها الطبيب، وغطست مرة أخرى في صمتها الأثير، متهيئة لأن تأخذ الطبيعة مجراها!

في التاسع عشر من ديسمبر لذلك العام، أصرت «أميلي» على مغادرة السرير، ونزلت إلى حجرة الجلوس، مفضلة أن تواجه الموت وهي جالسة على الكنبة، وقد كان موعدها معه في الساعة الثانية عصرا.

عندما ماتت، كانت أميلي في الثلاثين من عمرها فقط، ولم تكن قد كتبت بعد روايتها الشهيرة أي شيء على الإطلاق.

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية