Ad

أضحت مهمة الساعين إلى الإصلاح أصعب بكثير اليوم، وصار محتما عليهم أن يتصدوا لشريحة كبيرة من المجتمع، إن لم تكن الأكبر، تطبعت بثقافة الفساد والتلاعب والاحتيال، واحترفت ممارسة سلوكياتها الشاذة، بل صارت تعتبرها قمة الشطارة!

سعيت في مقالي السابق (فضيحة خمس نجوم في وزارة الإعلام!) والذي تحدثت فيه عن ذلك الموظف السجين لستة أشهر ومع ذلك بقي يتقاضى راتبه كاملا من مقر عمله، وزارة الإعلام، أقول إني سعيت إلى تبيان أن الخلل الذي نحن إزاءه قد غدا أكبر بكثير من مجرد تسيب إداري في هذه الوزارة أو المؤسسة أو تلك، وأن هذه الحادثة، مع كثير من شبيهاتها، تكشف أن الإخفاق السياسي/الإداري الذي صرنا نلحظه في أنحاء دولتنا كلها، له أسباب جذرية عميقة، ترتبط بفلسفة إدارة الدولة، وفلسفة الإنتاجية، وفلسفة الرقابة والمتابعة.

وفي مقال سابق كتبته قبلها بأيام تحت عنوان «ما في الفيران فار طاهر»، كنت ختمت بالقول إنه من الممكن معالجة الخلل السياسي هنا أو هناك والتصدي لهذه السرقة أو تلك، وإيقاف مسيرة الفساد في الجهات المختلفة، لكن من الصعب جدا تغيير ثقافة المجتمع إن هو تحول مجتمعا نفعيا شخصانيا غائصا في مستنقع المكاسب الشخصية.

حزمة من ردود الأفعال التي أعقبت مقالي عن وزارة الإعلام، كشفت لي أن الخلل قد وصل بالفعل إلى ثقافتنا المجتمعية، بل قد يكون وصل من التغلغل في نفوس الناس إلى مرحلة خطرة، وهو الأمر الذي كنت قد أبديت منه قلقي مرارا وتكرارا. كثير ممن اطلعوا على المقال، وبالرغم من قولي صراحة أن حادثة الموظف السجين لا تعني لي شيئا كبيرا بذاتها، بقدر ما تخيفني تجلياتها ودلالاتها، رأوا أني أعطيت الموضوع أكبر من حجمه، وأنه ليس سوى خلل إداري بسيط، بل اتجه بعضهم إلى تهميش المسألة برمتها! في ذات اليوم الذي نشر فيه مقالي المقصود نشر للزميل حمد العنزي مقال تحدث فيه عن كيف أن السرقة قد أصبحت عند كثير من الناس شطارة، والنصب والاحتيال نوعا من الفهلوة، واستغلال المناصب ذكاء وانتهازا للفرص.

هذه الفكرة المهمة التي جاء بها الزميل، وبربطها مع فكرتي أعلاه، تكشف كيف أن كثيرا من الناس في مجتمعنا قد تجاوزوا اليوم منحدر النظر من دون مبالاة إلى مسرحية الفساد والسرقة والنصب التي تجري في وزارات الدولة ومؤسساتها واعتبارها أمرا معتادا من ملابسات الحياة اليومية، ووصلوا إلى هاوية اعتبار أن من يلعب الأدوار في هذه المسرحية هم الشطار الأذكياء القادرون على التعامل مع الواقع بطريقة صحيحة، بل أن يتمنوا أن يكونوا مثلهم!

إذن فقد وصل مجتمعنا، وبالفعل، وبكل اقتدار إلى المرحلة الخطرة، حيث تبدلت ثقافته وانتكست قيمه ومفاهيمه ومعاييره الأخلاقية، وصارت مهمة الساعين إلى الإصلاح أصعب بكثير من السابق، لأنه إن كان على هؤلاء أن يتصدوا لفئة محدودة من الفاسدين في السابق، فقد أضحت المهمة أصعب بكثير اليوم، وصار محتما عليهم أن يتصدوا لشريحة كبيرة من المجتمع، إن لم تكن الأكبر، تطبعت بثقافة الفساد والتلاعب والاحتيال، واحترفت ممارسة سلوكياتها الشاذة، بل صارت تعتبرها قمة الشطارة!