Ad

لا شك في أن رد فعل تنظيم «القاعدة» على انتخاب أوباما، خصوصا أنه مال إلى الإثارة والاستفزاز بما تعمّده من نابي الألفاظ العنصرية، إذ يخاطب هواجس قائمة، بلغت مبلغا لا عقلانيا، منذ عدوان الحادي عشر من سبتمبر، بدا أكثر مدعاة للاهتمام، من كل السجال الدائر في العالمين العربي والإسلامي.

في مقالة رأي نشرتها مجلة «تايم» الأميركية في أحد أعدادها الأخيرة، نحا كاتبها، توني كارون، باللائمة على وسائل الإعلام في بلاده لفرط اهتمامها بتصريح لأيمن الظواهري، جاء نابي الألفاظ لا يتورع عن العنصرية في أكثر تجلياتها وضاعة، إذ وصف الرئيس الأميركي المنتخب، غامزا من قناة مَحْتِده العرقي ولون بشرته، بأنه «عبد البيت».

أشار كاتب «التايم» المذكور إلى تلك الواقعة، فأخذ على وسائل الإعلام تلك إحلالها تصريح الظواهري مركز الصدارة، حيث أفردت له الصحف، في طول البلاد وعرضها، صفحاتها الأولى، وتناولته القنوات التلفزيونية وأسرفت، فمكنت ذلك التصريح من ترويج ليس أهلا له، وأسبغت على تنظيم «القاعدة» وعلى زعيمه الثاني أو زعيمه المساعد تأثيرا في مجريات الأمور لا قبل لهما به.

ويثير رد الفعل هذا إشكالا يتعدى تلك الواقعة وهذا الآن، إلى مشكلة وسائل الإعلام، سواء في الديمقراطيات، حيث تحظى بحرية تكاد تكون مطلقة، أو في سواها، بعد أن مكنتها الوسائل التكنولوجية الحديثة مما من شأنه أن يجعلها في حِلّ من حدود الرقابة عليها ومن عوائقها في الإيصال. وقد تعاظم شأن تلك الوسائل، وقد باتت تتسمى «ميديا» أو «اتصالا»، وحازت من النفوذ أشدّه، حتى ابتدع بعض الباحثين والمفكرين مفهوما (ومصطلحا يحدده ويستوفيه) هو الـ«ميدياقراطية» (mediacracy)، أي حكم الميديا ووسائلها.

ذلك المصطلح عرّفه، مع أنه حديث العهد لمّا ينتشرْ على الألسنة ولم تلهج به، أحد القواميس كالتالي: «الميدياقراطية، هي الحكم، غير المباشر في العادة، بوسائل الميديا الشعبية، عادةً بسبب اضطراب يعتري الديمقراطية. وهي نظام يكف فيه الساسة عن التفكير، ويبدؤون في الاستماع حصرا إلى وسائل الميديا في ما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذي يتوجب عليهم فعله بشأنها»... وذلك ما قد يقدم تعاطي الإعلام الأميركي مع تصريح الظواهري عيّنة عليه، إذ استحوذت الميديا في ذلك الشأن على صلاحية تعيين أهمية ردود الفعل الخارجية، محتوى ومأتى، على انتخاب أوباما، وأحلت ما صدر منها عن تنظيم القاعدة في موقع الصدارة، برسم جمهور واقع تحت تأثيرها، ومؤثر بدوره في صانع القرار، عاملة بذلك على صياغة أولويات الولايات المتحدة، من استراتيجية وسواها، على ما فعلت مرارا طوال السنوات الماضية، ما جعل صاحب القرار أو الطامح إلى امتلاك زمامه، يأتمر، إن مبادرة أو إحجاما، بأمر استطلاعات الرأي، وهذه جزء من تلك «الميدياقراطية» لا يتجزأ.

لا اعتراض، مبدئيا، على ذلك. فالإعلام، حتى إن أضحى ميديا «سلطة رابعة»، أقله في الديمقراطيات، ولكن المشكلة أن السلطة تلك، على خلاف بقية السلطات الأخرى، ليست معرّفة ولا محددة الصلاحيات، إذ لا تخضع، في نهاية أمرها، إلا إلى مبدأ عام هو المتعلق بـ«حرية التعبير»، يعتبر هذا الأخير حقا مطلقا. وعدا عن أن ذلك الحق لا يختص بالإعلام حصرا، فهو إلى ذلك لا يتحدد، قانوناً، إلا على نحو سلبيّ، إن جازت العبارة، إذ ليس هناك من تحديد قانوني لحرية التعبير إلا ذلك المتعلق بالمخالفات التي قد تنجرّ عن مزاولتها أو بالجنح المرتكبة في حقها.

ربما كان ذلك كافيا يفي بالغرض في ما مضى من تاريخ الديمقراطيات، عندما كان يوجد عرف، ميتا-أخلاقي، يضبط الحياة العامة وتأخذ به الجموع والنخب، أضحى الآن مفقودا، بفعل تضافر عاملين على الأقل، أولهما تنامي الفردية واستفحالها، في ظل اقتصاد السوق، على نحو أفضى إلى تحويل المواطن، الذي يُفترض فيه أن يكون اللبنة الأولى للنظام الديمقراطي، إلى مجرد مستهلك لكل شيء، بما في ذلك للخبر والرأي، وثانيهما، المترتب على الأول، تسليع الميديا ومحتواها بواسطة الصورة، بمعناها الأوسع، تزيّن لذلك المستهلك ذلك الأمر الذي أضحى مجرد منتج من المنتجات، تخاطب في ذلك الغرائز بواسطة الإثارة وما إليها من وسائل الترغيب والترهيب. وقد بلغ من شطط ذلك المنحى أن غدا الساسة يتوخون ما يعرف بإعلام «البيبل» (people)، ذلك الشعبي والمختص في متابعة حياة النجوم، أهل فن ورياضة و«مجتمع»، ينسجون على منواله ويندرجون في منطقه ويتبنون تقنياته، فيعرضون على الناس وقائع حياتهم، بل فضائحها أحيانا، أكثر مما يعرضون أفكارهم وبرامجهم.

ومن منظور «عالم» ميدياقراطي كذلك، لا شك في أن رد فعل تنظيم «القاعدة» على انتخاب أوباما، خصوصا أنه مال إلى الإثارة والاستفزاز بما تعمّده من نابي الألفاظ العنصرية، إذ يخاطب هواجس قائمة، بلغت مبلغا لا عقلانيا، منذ عدوان الحادي عشر من سبتمبر، بدا أكثر مدعاة للاهتمام، من كل السجال الدائر في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم، حول فوز أوباما، استخلاصا لمآلاته المحتملة واستكناهاً لدلالاته.

يبقى أن تلك الميدياقراطية ليست شأنا يعني المجتمعات الرأسمالية المتقدمة بمفردها، بل هي ظاهرة كونية، وذلك شأن آخر، يتطلب تناولا على حدة.

* كاتب تونسي