في الجزء الأول من المقال تحدثت عن حقيقة مفادها أن القبيلة في الكويت حصلت على ما لم تحصل عليه في أي دولة من دول المنطقة من حيث التمثيل في الحكومة، وحرية الإعلان عن كيانها وممثليها ونشاطاتها بسبب الحريات العامة المضمونة دستوريا، ومباركة وتشجيع السّلطة لها، مما منع تطورها للاندماج في المجتمع الحضري الحديث المتجذرة أصوله في الكويت منذ أمد بعيد، وأخذ يتطور في البلاد منذ الخمسينيات من القرن الماضي.

Ad

وفي هذا الجزء نتطرق إلى استعراض التحديات من استمرار تجذر القبلية ودور السلطة من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه في الفترة المقبلة. فالواقع على الأرض يقول إن القبيلة أصبحت أغلبية في التركيبة الكويتية سكانياً وفي مؤسساتها الأمنية والعسكرية والجهاز الإداري للدولة وكوادر الإعلام الرسمي المرئي والمسموع، وتسيطر على الحركة النقابية وأغلبية الهيئات الرياضية المنتخبة، ويمكنها خلال فترة بسيطة مقبلة أن تسيطر كذلك على أغلبية مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات النفع العام وخلافه.

وترتيبا على ذلك، فإن بوسع القبيلة أن تجيِّر أغلبيتها تلك لمَن تريد سواء للسلطة كما يحدث في القطاع الرياضي حاليا أو لأي تجمع سياسي تتطابق مصالحه معه؛ كما فعلت سابقا مع «الإخوان المسلمين»، ومثلما تفعل حاليا مع السلف. وهي تستهدف من وراء تلك التحالفات توفير المرجعية الفكرية التي تفتقدها مؤسسة القبيلة التي لا يمكنها أن تتطابق مع أي فكر مدني أو ليبرالي يضرب أساس كينونتها القائمة على الروابط البيولوجية، أو يعزز منطق الدولة القائم على المساواة بين أفراد المجتمع، والذوبان في هوية الوطن الذي سيلغي بالتبعية أساس الانتماء القبلي القائم على تمييز مضمر دائم بين مَن هو داخل وخارج ذلك الانتماء المقفل على أبنائها، فيجعل العصبية متوهجة عبر المصلحة والعاطفة التي تقود إلى الطاعة للقبيلة وقياداتها التقليدية... ولنا أن نراقب ما يحدث أخيراً في مهرجانات «مزاين الإبل» لنعرف دور العاطفة والتفاخر في تعظيم الانتماء القبلي.

فالحديث عن تهميش أبناء القبائل، أو القبيلة، في الكويت كسبب يستوجب إجراءات تصحيحية يعيد إليها حقوقا مسلوبة أو امتيازات مفقودة، هو حديث لا أساس له من الصحة ولا سند وأدلة عليه من التاريخ، فأقدم قبيلتين تاريخياً في الكويت، وهما «العوازم» و«الرشايدة»، انخرطتا في المجتمع الكويتي وانصهرتا في هويته وفي أنشطته الرئيسة التجارية والبحرية، وكان لهما مكانتهما في إدارة البلد، ومازالت مواقع أحيائهما وميادينهما موجودة في الكويت القديمة داخل السور والدمنة (السالمية) والشعيبة.

وكما كانت الكويت دائما متسامحة لاستقبال هجرة الجميع إليها رغم النزاعات التاريخية التي شكلت لها تهديدات جدية وقدمت تضحيات غالية للتصدي لها. وفي دولة الاستقلال الحديثة، فإن مشاركة أبناء القبائل في مواقع الدولة المختلفة لم تتأخر كثيراً، وبدأت بشكل مكثّف في نهاية السبعينيات بعد انخراطهم قي أنظمة التعليم والبعثات. لذا فإن السبب الحقيقي لتمترس أبناء القبائل حاليا خلف القبيلة هو ما تحققه من امتيازات سريعة لأبنائها بعد التحالفات التي عقدتها السلطة مع الثنائي «الإسلامي- القبلي»، الذي أشرنا إليه سلفا.

إن الواقع الجديد للمجتمع الكويتي والتحديات التي تواجهة والمشكلات المستعصية التي تعانيها الدولة تتطلب نهجا جديداً غير المواجهة التي ستزيد من حدة التوتر الكامن فيه، والذي يُعبَّر عنه عند أي تحدٍ بالعنف في الملاعب الرياضية، وهو أمر أصبح ظاهرة في الكويت، فضلا عن المواجهات في المجمعات التجارية بين مجموعات من الشباب ذوي انتماءات مناطقية محددة، وهي أمور تتكرر في كل مناسبة أو عطلة رسمية.

لهذا بات من المحتم أن يتم إقناع القبيلة بأن مستقبلها مرتبط بمستقبل الوطن (الدولة الحديثة) الذي تنظمه حقوق وواجبات المواطنة، والانتماء إلى الوطن الذي ينتفي، ويشكل ردَّة عليه، نهج إحياء العصبية القبلية وما ينتج عنها من سلوكيات توزيع الغنائم المتمثلة اليوم في المناصب والامتيازات المالية المختلفة.

ولا شك أن المسؤولية الأساسية لذلك تقع على عاتق السُلطة لدورها التاريخي وقراراتها التي شكلت دور القبيلة وصاغته على هذا النحو في البلد... لذا فعليها، أي السلطة، أن تباشر الحوار وإيصال الرسائل بأنها غيَّرت النهج والأسلوب لمصلحة مستقبل البلد، وأن الجميع- بمن فيهم أبناء القبائل- له دور ومكانة محفوظان في البلد بقدر كفاءته وما يقدمه للدولة، لأن مستقبل الكويت واستقرارها أصبحا مرهونين بمدى القدرة على إدماج القبيلة- وأبنائها- في الدولة والإبقاء عليها في إطار جوهرها ككيان اجتماعي لا غير. وبهذا تكون السلطة قد أقدمت على إصلاح خطأ تاريخي وقعت فيه لحسابات سياسية ضيقة الأفق في حينه وخطيرة العواقب في المستقبل القريب!

وهنا ينبغي على السلطة أن تقوم بمهماتها من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه في الفترة المقبلة التي قد تشهد إجراءات استثنائية بسبب الأزمات المتصاعدة بين الحكومة والمجلس، والتي ستجد القبائل فيها فرصة تحدٍ ذهبية لن «تطوفها»، لتحافظ على مكتسباتها ولتكرس الواقع عملياً، ولتكون واجهة العمل السياسي في البلاد في المرحلة اللاحقة، وما قد يصاحب تلك التطورات من هزات أمنية واجتماعية خطيرة.