مهما عظمت جراح الجسد فإن تعاقب الأيام لا يترك منها سوى وشمها القديم أثراً تذكارياً لنزف منقطع وجرح ملتئم وألم متبدد.. لكن جراح الروح، الزاهدة في ترك آثارها الظاهرة، تتسرب بلؤم شنيع إلى أبعد أعماق المرء لتحتلها وتحولها كلها إلى أثر دام مؤبد.

Ad

وليس ثمة شيء في الدنيا يملك براءة اختراع جراح الأرواح أو براعة صنعها وتنويعها أكثر من الطغيان.. ذلك الغول البشع المدمر في أدواره جميعها: عند القلق من وصوله، وحين تسلطه، وبعد زواله!

وكشاهد على هذه الجراح الغائرة والنازفة على الدوام، تأتينا الروائية «مارينا لويكا» بنموذج بالغ الأثر، ضمن روايتها الجميلة «تاريخ موجز للجرارات باللغة الأوكرانية».

ولويكا هي كاتبة بريطانية من أصول أوكرانية، ولدت في مخيم للاجئين بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ونشأت في انكلترا بعد نزوح والديها إليها، والرواية المشار إليها هي روايتها الأولى، وكانت عند صدورها عام 2005 قد حظيت بحفاوة بالغة من قبل النقاد والقراء، وحصلت على عدد من الجوائز الأدبية، وفيها تتناول لويكا أزمة امرأتين بريطانيتين من أصل أوكراني، حيث يسعى والدهما الطاعن في السن إلى الزواج من امرأة أصغر منهما سنا، ضمن صفقة مريبة تدركان أن وراءها هدفا نفعيا يتمثل في طمع المرأة بالحصول على الجنسية البريطانية وعلى أموال أبيهما أيضاً.

وسواء أكانت وقائع الرواية متصلة بالمخزون الأسري للكاتبة نفسها، أم مجرد خيال روائي يسنده ذلك المخزون، فإن الأمر سواء في ما يتعلق بموضوعنا، ذلك لأن الرواية برغم طابعها الفكاهي الساخر، تحتشد بصور كثيرة للحياة الأوكرانية البعيدة والقريبة، بما تحمله من مرارات وأحزان تحتال لإظهار وجهها الكئيب حتى في أكثر المواضع سخرية واضحاكا.

ولنا في الوصف التالي المقتطف من فصل بعنوان (ميراث أمي الضئيل) ما يؤكد بشاعة اثر تلك الجراح التي يصنعها الطغيان في الروح.

تقول الراوية: لدى والدتي خزانة تشغل المساحة القائمة اسفل السلم، وهي مكتظة من الأرض الى السقف بمعلبات السمك واللحم والطماطم والفواكه والخضار والسجق، وبعلب السكّر والدقيق والرز والمعكرونة من مختلف الأصناف والبازلاء المفلوقة وطحين الشوفان، وبزجاجات الزيت المستخلص من الخضر او عبّاد الشمس او الزيتون، وبالمخللات بانواعها من المنزل هناك صناديق منزلقة تحت اسرة النوم تحتوي على مرطبانات من المربى المصنوع منزليا، وفي سقيفة الأوعية وفي المرآب هناك صناديق ممتلئة بآخر غلّة من التفاح مهيأة للعصر، اضافة الى أكياس مشبّكة تحتوي كميات من الجزر والبطاطا لا تزال ملفعة بثوبها الطيني، وفي الكوخ الخارجي هناك حزم من البصل والثوم معلّقة في الظلمة الباردة.

وعندما اشترى والدي مجمّدة في عام 1979 فإن البازلاء والفاصوليا والهليون والفواكه سريعة العطب، صارت تعلّب بسرعة في أكياس بلاستيكية وترفق بملصق بين نوعها وتاريخها تعبئتها ثم تودع في المجمّدة، حتى الشبث والبقدونس كانا يلفّان بحزم بلاستيكية ثم يخزنان من أجل استعمالهما في أي فصل يندر وجودهما فيه.

عندما مازحتها يوما بقولي إن هذه المؤن كافية تماماً لاطعام جيش كامل، هزّت إصبعها في وجهي قائلة: إنه مجرّد تحوّط لليوم الذي قد يصل فيه صاحبكم (توني بين) الى السلطة. (تشير الكاتبة هنا الى النائب العمالي الشهير المعروف بمواقفه الاشتراكية الحادّة، وتجعل قول الأم ذا حدين، فهي تنتقد في عبارة واحدة النائب، وابنتها ذات الميول الاشتراكية).

تقول الرواية: والدتي قدتعرفت على الايديولوجيا وعلى الجوع معا، عندما كانت في الحادية والعشرين، وذلك ان ستالين كان قد اكتشف انه يمكنه استخدام التجويع كسلاح سياسي ضد المزارعين الاغنياء في اوكرانيا.

لقد عرفت والدتي ذلك، وهذه المعرفة لم تفارقها قط خلال اعوامها الخمسين التي عاشتها في بريطانيا، ثم انها سربت تلك المعرفة من اعماقها الى قلوب أطفالها!

لقد عرفت بشكل مؤكد ان وراء الرفوف العالية المتراصة الحافلة بالبضائع الوفيرة لمحال (تيسكو) وغيرها من الاسواق الكبرى، لايزال الجوع هناك يجوس بهيكله العظمي وعينيه الفاغرتين، منتظرا أن يقبض عليك في اللحظة التي تكون فيها اعزل من دون حماية، ليرميك فوق قطار او عربة، ويرسلك في رحلة محطتها الاخيرة دائما هي الموت. الطريقة الوحيدة للاحتيال على الجوع هي ان يدخر المرء ويكدس، لكي يكون لديه دائما شيء يضعه بين اسنانه. شيء قليل يفتدي به نفسه من الموت!

لقد اكتسبت والدتي مهارات غير عادية في مجال الاقتصاد، فهي يمكن ان تقطع مسافة نصف ميل الى آخر الشارع العمومي، من اجل أن توفر بنسا واحدا من ثمن كيس سكر. انها لم تشتر على الاطلاق، شيئا يمكنها أن تصنعه بنفسها. ولطالما عانيت واختي من الخزي بسبب ثيابنا التي تخيطها لنا بنفسها من فضلات اسواق الاقمشة، وكثيرا ما عانينا من تحمل وصفات الاطعمة التقليدية والخبز البيتي، فيما نحن نتحرق رغبة الى الاطعمة السريعة وشرائح الخبز الابيض.

اما الاشياء التي لا تستطيع صنعها كالاحذية والمعاطف والاواني، فيجب الا تشترى ألا مستعملة. ينبغي أن يكون شخص ما قد اختارها وتملكها واستعملها قبلنا ثم رماها. واذا كنا نريد أن نشتريها جديدة فيجب أن تكون بأرخص ثمن، بتنزيلات كبرى أو بمساومة كبرى: الفواكه التي على وشك التخلص منها، علب الطعام المطعوجة، الثياب المتخلفة عن زمنها.. كأن تكون من موضة العام السابق. لا يهم - هذا ما تقوله أمي - نحن لسنا متغطرسين نحن لسنا من طراز الحمقى الذين يبددون المال حرصا على المظاهر، فيما يعلم كل شخص مهذب أن المهم حقا هو ما في داخل ذات الانسان.

أبي يعيش في عالم آخر. انه يذهب الى الشغل كل يوم، حيث يعمل في مصنع للجرارات، ويتقاضى اجرته فيشتري الاشياء ذاتها التي يشتريها زملاؤه في العمل: ملابس جديدة (ما العيب في هذا القميص؟ إنني أستطيع أن أصلحه لك. تحتج والدتي) آلة تصوير (من يحتاج الى آلة تصوير؟) كتب (هناك كتب كثيرة في المكتبة العامة) دراجة نارية جديدة (لكي تقودها مثل المجانين)!

كل أسبوع كان والدي يسلم والدتي مبلغا مقطوعا من المال، وهو مبلغ سخي بالنسبة لنفقات البيت ثم إنه يصرف ما يتبقى من أجرته.

وعلى هذا فإن والدتي، بعد خمسين عاما من التوفير والتخليل والعصر والتعليب والخبز والصنع قد استطاعت أن تكوّن عشا بيضاته آلاف عدة من الجنيهات، اقتطعتها من المال الذي كان والدي يقدمه لها كل اسبوع. تلك كانت نخزتها في عين الجوع، وملجأ طمأنينتها في الليل وهديتها من اجل امان اطفالها تحسبا لليوم الذي يأتيهم فيه الجوع!

وها نحن قد رأينا كيف أن هذه المرأة ظلت تحمل ذلك الجرح الاوكراني القديم في اعماقها حيا وطريا ونازفا، على الرغم من عيشها بعيدا عنه، لمدة خمسين عاما، كمواطنة بريطانية تمتلك حقوقها كاملة في العيش الكريم. قاتل الله الطغيان!

* شاعر عراقي،  تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.