تناولت في ما سبق من مقالات في هذه السلسلة، كيف كانت ردة فعل الدول والشعوب العربية تجاه مذكرة التوقيف الصادرة من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس السوداني، والموقف العدائي الأميركي والاسرائيلي من إنشاء هذه المحكمة أصلا، وقلت إن فكرة إنشاء هذه المحكمة كانت قد بدأت بعد الحرب العالمية الاولى التي راح ضحيتها 20 مليون شخص، وإن الفكرة عادت لتطل برأسها من جديد بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من كوارث في ظل هيئة الأمم المتحدة التي قدمت فيها فرنسا مشروع قرار بإنشاء هذه المحكمة، وهو المشروع الذي انتقد محاكمات نورمبرغ، باعتبارها تمثل إرادة الدول المنتصرة التي لم تحاكم سوى مجرمي الحرب من الدول المنهزمة، حيث لم يقدم للمحاكمة مجرمو الحرب من الدول المنتصرة، وقلت إن الرئيس الأميركي الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي كان أول من تجب محاكمته أمام هذه المحكمة.
المتهم الأول: تقديس الفرد وتعظيمهوقد سجلت محاكمات نورمبرغ أن تقديس الفرد وتعظيمه والحكم الفردي المطلق هو سبب مأساة الحرب العالمية الثانية، وهي الحقيقة التي اعترف بها المتهمون ومنهم فرانز فون باين، مستشار الرايخ قبل هتلر وسفير ألمانيا النازية في النمسا وتركيا خلال الحقبة الهتلرية في ردة فعله الأولى على اعتقاله لمحاكمته أمام محكمة نورمبرغ، عندما قال «في رأيي أن تقديس الفرد وتعظيمه مع سنوات طويلة من الحكم المطلق هو الذي يحمل الوزر الرئيسي في كل ما يحدث، ومن خلال هذا أصبح هتلر كاذبا محترفا عبر السنين».ولم يخف باقي المتهمين الرئيسيين في المحاكمة هذه الحقيقة، ومنهم يواكيم فون رينتروب وزير الخارجية النازي والبرت سيير وزير الدولة للتسليح والذخائر وهانز فرانك المستشار القانوني لهتلر، والاقتصادي والترفونك وارنست كالتنبرونر رئيس جهاز الأمن الخاص بهتلر، والفيلد مارشال كايتل رئيس أركان حرب القوات المسلحة.فقد قال الاول للطبيب النفسي دكتور جيلبرت الذي كان يعمل في سجن نورمبرغ أثناء محاكمة كبار مجرمي الحرب النازيين، ويقوم بدوره كمحلل نفسي للمتهمين ولدراسة ردود أفعالهم، والذي ألف كتابا عن هذه المحاكمات، والذي سجل كثيراً من اعترافات وأقوال المتهمين.أما البرت سيبر فقد أعلن إدانته للحقبة النازية بقوله «المحاكمة ضرورية، فقد كان هناك مسؤولون عن مثل هذه الجرائم المرعبة حتى لو كان هذا في ظل نظام دكتاتوري».وفعل مثله هانز فرانك عندما اعتبر محاكمات نورمبرغ نهاية لتلك الحقبة المرعبة من المعاناة والآلام تحت حكم هتلر.أما والتر فونك فقد قال «إن كنت قد فعلت ذنبا من ذلك المنسوب إلي ومسجلا في قائمة الادعاء فيكون ذلك خطأ وجهلا ليس إلا» والخطأ والجهل الذي اعتذر به والتر يعني حالة اللا وعي التي كان يعيشها الشعب الألماني وعلى رأسه القادة الألمان.وقال الفيلد مارشال كايتل في إثبات براءته «بالنسبة للجندي الأوامر هي الأوامر.واعترض آرنست كالتنبرونز على محاكمته كبديل لهتلر.حلم هتلر بالسلطة المطلقةكان هذا الحلم يراود هتلر النمساوي الصعلوك عندما تطوع في عام 1914 ليحارب ضمن الفوج البافاري، الذي خاض الحرب العالمية الاولى، فقد شعر عقب هزيمة ألمانيا في الحرب واستسلامها وتوقيعها معاهدة فرساي بالعداء للإمبراطور وكبار السياسيين ولليهود الذين كانوا يحكمون الدول التي انتصرت على ألمانيا.هتلر وثقافة الحكم الفردي:وكان من رفقاء دربه في الفوج البافاري رودولف هيس الذي كان عنوان رسالته الجامعية «التركيب الضروري للرجل الذي يجب أن يعيد ألمانيا الى أمجادها القديمة» وهي رسالة قرأها هتلر، ليجد فيها ضالته فيما كتبه هيس قائلا في هذه الرسالة «من أن القائد باعتباره عظيما من العظماء لا ينكمش أمام سفك الدماء وإن كثيراً من القضايا العظيمة تحققت بالدم والحديد».كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمه هتلر من هيس ورسالته الجامعية، وأصبح محور تفكيره.معاهدة فرساي والكرامة الوطنيةوكانت معاهدة فرساي التي وقعتها ألمانيا بعد استسلامها في الحرب، تمثل عبئا ثقيلا على الكرامة الوطنية الألمانية التي ضاعت في أعقاب هذه الحرب، عندما نصت هذه المعاهدة على نزع سلاح ألمانيا، وتحديد عدد الجيش الألماني بمئة ألف متطوع، مجردا من الأسلحة الثقيلة، الدبابات والطائرات، والغواصات والقطع البحرية التي تجاوز حمولتها عشرة آلاف طن.كما وضع الحلفاء في إبريل عام 1921 قائمة بالتعويضات التي ينبغي على ألمانيا أن تسددها، والتي تقدر بثلاثة وعشرين مليارا من الدولارات، وهو رقم هائل لا قبل لدولة في هذا الوقت بتحمله.ومن هنا استغل هتلر حالة السخط العام التي تملأ ألمانيا من نتائج الهزيمة والتي كانت معاهدة فرساي أشد منها، وانضم الى حزب صغير جديد هو حزب العمال البريطاني، الذي غير اسمه وجعل له شعارا هو الصليب المعقوف، ونجح هتلر في نقله من بافاريا حيث نشأ الحزب الى المانيا كلها، ليجذب الى صفوفه الألوف من الألمان بموهبته العالية في التنظيم والدعاية والخطابة.الحكم الفردي بعباءة شرعيةوبعد أن باءت كل محاولات هتلر في الوصول الى السلطة عبر المؤامرات والانقلابات بالفشل، استطاع أن يصل اليها عبر انتخابات حرة وبعباءة شرعية وفقا لقواعد الدستور وأحكامه، فكلفه رئيس الجمهورية هندنبرغ بتشكيل الحكومة، التي كانت تخضع لمجلس الرايجستاج، الذي لم يكن لهتلر فيه الاغلبية المطلقة، فدبر حرق مبناه، ليتهم الشيوعيين بهذه الجريمة للقضاء عليهم، واستطاع هتلر بعد قضائه على المعارضة أن يحمل الرئيس هندنبرغ على إصدار مرسوم بإيقاف العمل بالأجزاء السبعة من الدستور الخاصة بالحريات الشخصية والمدنية، باسم حماية الدولة والشعب.تخويل هتلر كل سلطات الدستور وكان هتلر قد أحكم قبضته على الجيش، عندما وعده بإعادة تسليح ألمانيا وإلغاء معاهدة فرساي، كما استمال لجانبه رجال الصناعة والتجارة عندما أصبحت المصانع الألمانية تعمل بكل طاقاتها من أجل إنتاج الحرب وهو ما استوعبت معه، الملايين من العمال العاطلين الذين خلفتهم الحرب.ثم استطاع هتلر أن يجبر الرايخستاج على إقرار قانون الصلاحيات الذي يخول المستشار الألماني - أي هتلر- كل سلطات الدستور، بغير تعقيب عليه من أي سلطة وذلك لمدة أربع سنوات استمرت حتى نهاية حكم هتلر، وأصبح الحزب النازي في بضع سنوات هو الحزب السياسي الوحيد في ألمانيا، بقرار من وزير الداخلية، الذي كان قد أصدر قراراته الواحد تلو الآخر بحل باقي الأحزاب، كما قامت بعض الأحزاب بحل نفسها طواعية، خوفا من المطاردة والاعتقال والتصفية الجسدية.ثم كان تسليح الجيش الألماني تسليحا حديثا للحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الملايين من البشر، كما راحت ألمانيا ذاتها ضحية لها.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: المحكمة الجنائية الدولية الحكم الفردي المتهم الأول في محاكمات نورمبرغ 4
08-09-2008