أصبح عمري اليوم 50 عاماً في مهنة الحبر والورق والبحث عن المتاعب، بشهادة نقابة الصحافة اللبنانية التي أقامت في الأسبوع الماضي احتفالاً رسمياً بحضور ممثلي الرؤساء الثلاثة، وطبعاً وزير الإعلام ونقيبي الصحافة والمحررين، مع حشد من الزملاء الذين فصلت بيننا الحرب الأهلية لمدة ثلاثين سنة. سلمني النقيب محمد البعلبكي ما أطلقت عليه النقابة «درع الصحافة»، وما سميته أنا «درع الشيخوخة»، وكأني بالنقابة تعترف بصورة غير مباشرة أنني وصلت إلى هذا العمر وأنا مازلت واقفاً على قدمي من دون أن تصيبني قذيفة طائشة، أو رصاصة كـُتِبَ عليها اسمي، أو انفجار سيارة مفخخة، أو حرق اليدين بالأسيد، كما حدث للزميل المرحوم سليم اللوزي، أو حتى قطع اللسان. أما كيف أُنقذتُ وبقيتُ إلى اليوم أتنفس الهواء الموبوء بسموم سيارات المازوت وتصريحات السياسيين، فإن الفضل يرجع بالدرجة الأولى إلى العناية الإلهية وإلى الحظ الذي لا أؤمن بوجوده.

Ad

والحقيقة أقول إنني طيلة هذه الفترة التي قضيتها في الغابة اللبنانية، كنتُ أسير كغيري من الزملاء تحت مطر متواصل، لكنني نجحت في ألا أتبلل. كيف؟ لهذا أحداث كثيرة وطويلة سأعفي القارئ من ملل قراءاتها لأنها أحداث شخصية ولأنني أكره النرجسية، وبالتالي الكتابة عن النفس بالقوة ذاتها التي أحببت مهنتي إلى درجة العبادة.

وللدلالة على ذلك أروي حادثة واحدة: عندما دخل الجيش السوري إلى بيروت في العام 1976، وكنت من مناوئي هذا الدخول، جرى احتلال مكتبي وصدرت مذكرة بإلقاء القبض عليّ حياً أو ميتاً، وتمكنت بمساعدة الزعيم الفلسطيني الراحل أبوإياد من الوصول إلى المطار متخفياً و... هربت. قبل أن أفعل ذلك اتصلت بالرئيس إلياس سركيس، وكان رحمه الله صديقاً صدوقاً منذ فترة العهد الشهابي، وعندما سمع صوتي قال لي: هل ما زلت في بيروت؟ اخرج منها سريعاً فأنا لا أستطيع أن أحميك. وكانت تلك إشارة واضحة إلى أن القوات السورية قد احتلت إرادة الرئاسة اللبنانية قبل أن تحتل مكتبي.

في لندن، وبعد سنتين تقريباً، التقيت بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام مع بعض الزملاء الهاربين وكان بينهم الزميل سليم نصار، حيث بادرني خدام بالقول: قل لي يا أخي علي... كيف هربت من بين أيدينا؟ وكانت تلك إشارة ثانية إلى أن اليد السورية قد تصل في امتدادها إلى لندن. وتصرفت على هذا الأساس طيلة فترة الـ25 سنة التي قضيتها مهجّراً وليس مهاجراً إلى أن حانت الفرصة السياسية المناسبة للعودة إلى الوطن في عام 2000، طبعاً عبر الحدود السورية وبموافقة خدام والرئيس المرحوم حافظ الأسد شخصياً.

وبالرغم من ذلك مازلت أعتبر نفسي، كغيري من الزملاء الذين بقوا على قيد الحياة، مشروع شهادة لأنني مازلت أكتب عكس التيار الذي أتلف الحبر والورق، ودجّن العقول وكـَسَرَ الأقلام، ليس لأنني أنتمي بصلة القربى إلى قبيلة عنترة بن شداد، أو الزير أبو ليلى المهلهل، وهما يمثلان في التاريخ العربي القديم منتهى الجرأة والبطولة، بل لأنني وبكل بساطة عشقت الصحافة ومازلت، ولممارسة هذا العشق قواعد تختلف كل الاختلاف عن قواعد اليوم.

فالصحافة في قناعتي ليست مهنة بالمعنى المتعارف عليه، بل هي هواية وموهبة، ويجب أن تبقى كذلك. كما أنها رسالة قد تصل إلى حدود الرسائل السماوية لأنها تلتقي معها في المبدأ الأساس، وهو التفتيش عن الحقيقة ونقلها إلى الناس كما هي من دون زيادة أو نقصان أو رتوش.

الصحافة اللبنانية أيام زمان كانت هذه هي قواعدها ومبادئها. لقد عاشت مرحلة ذهبية قصيرة العمر بين بداية الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات، وكان الصحافي في هذا الزمان الطيب يمشي ملكاً على الأرض، يحترمه الجميع وتفتح له الأبواب، ويشار إليه بالبنان تقديراً وإعجاباً... كان نجماً ساطعاً في سماء الصالونات الاجتماعية والمنتديات الفكرية والسياسية، وهذا لا يعني أنه كان حاكماً بأمره، بعيداً عن انتقام أعداء الكلمة الحقة، والدليل أنني دخلت سجون لبنان ثلاث مرات في خمس سنوات: المرة الأولى عندما نشرتُ خبراً خاصاً، في بداية السبعينيات، عن لقاء سري جرى بين ملك الأردن الراحل حسين بن طلال ورئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت غولدا مائير، والعجيب أن الملك الراحل اعترف في خطاب ألقاه أمام الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون عند زيارته إلى عمّان في التسعينيات بحدوث أكثر من لقاء سري مع غولدا ومع غيرها من المسؤولين الإسرائيليين. وكتبت في حينه رسالة إلى الملك عبر الديوان الملكي في عمان أطالب بإعادة الاعتبار المعنوي لأن ما نشرته وأدخلني إلى سجن الرمل في بيروت لم يكن خبراً «مفبركاً»، وإلى اليوم لم أتلق جواباً من رئاسة الديوان كما تقضي بذلك الكياسة الملكية.

أما الثانية فحدثت في 1974 وكانت نتيجة آراء أبديتها في ارتباط السياسة السعودية أيام الملك الراحل فيصل بهزيمة 1967 ومازلت أعتبره، رحمه الله، الإصلاحي الأوحد في المملكة، والذي سلم الملك الحالي عبدالله أمانة ومشعل هذا الإصلاح. وأسارع إلى الاعتراف بأنني كنت قاسياً، وربما مخطئاً، في نشر ما نشرت، والذي اعتبرته المملكة ماساً بها، وبعد خروجي من السجن كتبت رسالة اعتذار إلى الملك الراحل معترفاً بخطئي، معلناً تقديري له، مما دفع خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبد العزيز، وكان وقتها ولياً للعهد، بالفروسية المعروفة عن أبناء عبدالعزيز، إلى المجيء إلى بيروت ليساهم في إطلاق سراحي. وعندما قابلته، مباشرة بعد خروجي من سجن الرمل في فندق الكارلتون بادرني بالقول: أنت جواد كبا.

ما أريد أن أقوله في هذا المجال أن الصحافة كغيرها من أبناء البشر، غير معصومة عن الخطأ. لكن الرسالة الصحافية الحقة تتطلب تصحيح هذا الخطأ بنفس الجرأة التي ارتكبت بها الخطأ، أما فترة سجني الثالثة فهي على عنوان مقال كتبته وليس على المحتوى. كانت السيدة المصرية الأولى جيهان السادات قد بدأت مسيرتها في الخروج من المنزل إلى العمل السياسي، حيث قامت بزيارة لعدد من وحدات الجيش المصري. نـَشرْتُ التفاصيل مع عنوان: جيهان السادات... «الرجل القوي» في مصر، وقامت دنيا مصر الرسمية ولم تقعد إلى الآن، بدليل أن اسمي مازال على لائحة الأمن المصري السوداء ممنوعاً من دخول الحبيبة مصر منذ العام 1973 بالرغم من تدخل عدد من الأصدقاء وعلى رأسهم أستاذي محمد حسنين هيكل.

ما أرمي إليه هو أن صحافة أيام زمان كانت صحافة حرة بالاسم وبالفعل معاً، وكان القانون يعاقب على الشطط وعلى الخطأ، لكنه لا يخطف ولا يغتال ولا يفخخ السيارات ولا يذيب يدي الصحافي في «الأسيد» ولا يعتقله سنوات وسنوات دون التحقيق معه كأنه كمية مهملة، فما الذي تغيّر وتبدّل حتى أصبحنا اليوم صحافة حرة حسب نصوص القانون ولكن من دون حرية؟

أقول مجازاً إن وباءً شبيهاً بوباء «إنفلونزا الخنازير» قد أصاب الصحافة اللبنانية حتى صارت إلى ما أصبحت عليه اليوم. ظهر الوباء في بداية الثمانينيات، وانتشر إلى الجوار ومنها إلى العالم بأكمله. إن الصحافة العالمية بمعظمها تعاني جرثومة عدم رؤية الحق والحقيقة، ولم تعد تلك السلطة التي تثور وتنتفض للكرامة الإنسانية التي هي أساس رسالتها.

إن وباء «إنفلونزا الخنازير» يصيب الجسد ويريح المصاب به بنقله بسرعة إليه تعالى، أما الجرثومة التي أصابت الصحافة فإنها تعشعش في العقول حيث تشلّ قدرة المريض على التفكير الصحيح وتعمي بصره وبصيرته عن إدراك الحقائق، وتدفعه إلى صفوف الظالمين ضدّ المظلومين، والمصيبة الكبرى أن أصحاب المختبرات العلمية يرفضون اختراع المصل الشافي لهذه الجرثومة لأنهم المستفيدون الوحيدون من انتشارها.

* * *

خير صورة لصحافة اليوم، لبنانياً وعربياً ودولياً، تلك التي رسمها الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري بكلمات قصيدة عصماء ألقاها في احتفال في بيروت في الخمسينيات:

.. وصحافة صفر الضميرِ كأنها سِلـَعٌ تـُباعُ وتـُشْتـَرى وتـُعارُ.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء