مآذن لها تاريخ مئذنتا جامع محمد علي بالقاهرة...

نشر في 22-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 22-09-2008 | 00:00
No Image Caption
يبدو جامع محمد علي بموقعه بأعلى قلعة الجبل بالقاهرة وكأنه بناء معلق في الهواء يراقب كل حركات وسكنات شوارع المحروسة، تماما مثلما كان يفعل مشيده الألباني الأصل، ولا يستمد جامع محمد علي هذه المكانة البصرية ذات الطابع البانورامي من هيئته الضخمة فحسب، بل أيضا من مئذنتيه الرشيقتين اللتين يصل ارتفاع الواحدة منهما إلى حوالي 84 مترا.

ومئذنتا جامع محمد علي متشابهتان تماما، وشيدتا على طرفي واجهة الجامع الشمالية، وهما من الطراز العثماني الذي تكررت نماذجه في قارات العالم القديم، والذي يوصف بأنه شبيه بأقلام الرصاص المسننة .

وتمتاز المئذنتان برشاقة ارتفاعهما المتناسق مع سمك بدنيهما، وجاء بدن كل مئذنة على هيئة مثمن، وزخرف البدن بقنوات طولية محفورة حفرا غائرا في أحجار البناء، ولكل مئذنة شرفتان للأذان ونهاية مخروطية تشبه شكل المسلات المصرية القديمة، وهذه النهاية شائعة في مآذن العمائر العثمانية، ويراها بعض الآثاريين من التأثرات البيئية لمعيشة الأتراك في هضبة الأناضول داخل خيام، كانت قوائمها تتخذ هذا الشكل المخروطي المدبب في نهايتها.

واقتبس مهندس الجامع تصميم مآذنه من مسجد السلطان أحمد الثالث بأستانبول، بما في ذلك سلالم المئذنتين والمؤلفة من 256 درجة في كل مئذنة، وهي تؤدي إلى ممر علوي يحيط بالمسجد، وإلى دكة المؤذنين التي تشغل الجدار الغربي من المسجد، وهي مقامة على ثمانية أعمدة من الرخام، وفوقها عقود وسقوف ولها سياج من نحاس، ويبدو من هذا التصميم أن المئذنتين ربما لم تستخدما دوما في رفع الأذان، وذلك لموقع الجامع داخل قلعة الجبل المشيدة فوق جبل المقطم، وهو ما قد يحول دون وصول صوت المؤذن إلى أحياء القاهرة المترامية الأطراف، والتي كانت الضوضاء تغزوها بعنف مع خطوات التحديث التي قادهاه محمد علي . ونظرا لأن الجامع كان مخصصا لسكان القلعة من خواص الوالي ورجال الإدارة والحكم، فقد كان رفع الأذان يتم من شرفة الأذان الأولى وربما من داخل دكة المؤذنين المتصلة بالمئذنتين .

وشيد محمد علي باشا هذا الجامع بين عامي 1246هـ إلى 1265هـ 1830 - 1848م ليكون عنوانا على ازدهار دولته في مصر والسودان، ولتيسير إقامة الشعائر لسكان القلعة، بعدما أصاب جامع القلعة القديم الذي شيده الناصر محمد بن قلاوون من أضرار، نتيجة لقيام حملة بونابرت بتحويله إلى سجن لثوار القاهرة وساحة لتنفيذ أحكام الإعدام .. ومن المعروف أن اختيار محمد علي وقع على المهندس التركي “يوسف بشناق ” ليصمم الجامع ويشرف على بنائه، واستعان بشناق بتصميم جامع أحمد الثالث بأستانبول، فاقتبس منه مسقطه الأفقي بما فيه الصحن والفسقية والمأذن مع تحويرات طفيفة .

والجامع في مجموعه مستطيل البناء، وينقسم إلى قسمين، الغربي منهما صحن مكشوف كبير مساحته مربعة، تقريبا “53 في 54 مترا ” وتحته صهريج كبير للمياه، لتزويد فسقية الوضوء التي تتوسط الصحن .. ويحيط بهذا الفناء أربعة أروقة ذات عقود محمولة على أعمدة رخامية، تحمل قبابا صغيرة منقوشة من الداخل، مغشاة من الخارج بألواح من الرصاص المتوج بأهلة من النحاس .

وبوسط الصحن قبة للوضوء أنشئت سنة 1263هـ “1844م” مقامة على ثمانية أعمدة من الرخام، تحمل عقودا تكون منشوراً ثمانياً به زخارف بارزة، وبداخل هذه القبة، قبة أخرى رخامية ثمانية الأضلاع .

وفي الطرف الغربي لهذا الصحن يقوم برج الساعة الدقاقة التي أهداها ملك فرنسا “لويس فيليب ” لمحمد علي الكبير في عام 1262هـ “1843م ”، والبرج من نحاس مخرم ومحلى بنقوش وبزجاج ملون، وفي مواجهة برج الساعة يوجد الباب الذي يؤدي إلى القسم الشرقي من المسجد والمعد للصلاة، وإذا كان هذا القسم المفتوح يعتبر حرما للجامع أو مصلى لأوقات الصيف، فإن القسم الشرقي يعد المسجد الرئيسي، ويحتل مساحة مربعة طول ضلعها 14 ‬مترا، وغطى بقباب صغيرة وأنصاف قباب تتوسطها قبة مرتفعة قطرها 21 مترا وارتفاعها 52 مترا عن مستوى أرضية المسجد، والقبة المركزية محمولة على أربعة عقود كبيرة تتكئ أطرافها على أربعة أكتاف مربعة، وتحدق بهذه القبة أربعة أنصاف قباب ثم نصف خامس ليغطي بروز المحراب، بالإضافة إلى أربع قباب صغيرة في أركان المسجد .

وكسيت جدران الجامع من الداخل والخارج بالرخام الألباستر المجلوب من محاجر بني سويف، وكذلك الأكتاف الحاملة للقبة ولكن إلى ارتفاع ١١ مترا فقط، وانتقد العديد من المؤرخين محمد علي لأنه استخدم دوما المسجونين لتقطيع الرخام وحمله إلى المراكب عند شاطئ النيل .

وتوجد في أسفل المسجد الشبابيك التي ازدانت أعتابها من الداخل بكتابات نسخية رائعة احتوت على أبيات من قصيدة البوصيري الشهيرة بـ “البردة ” وهي من أشهر ما قيل في مدح رسول ا لله “صلى الله عليه وسلم”.. أما محراب المسجد فقد شيد بالرخام الأبيض المرمري والذي جلب خصيصا من إيطاليا، وإلى جواره المنبر الرخامي الجديد الذي كان بالجامع في عهد الملك فاروق، نظرا لبعد المنبر الخشبي الأصلي عن موضع المحراب .

ويعتبر جامع محمد علي معرضا مفتوحا، للزخارف التي كانت سائدة في تركيا خلال تلك الفترة من القرن التاسع عشر، وهي مقتبسة من طرازي الباروك والركوكو الأوروبيين .

وجامع محمد علي، رغم ضخامة بنيانه وفخامة زخارفه المذهبة والملونة، يبدو أقل بهاء من عمائر المماليك التي ملأت القاهرة، بسبب استعارة تصميمه من تركيا الواقعة في العروض الشمالية القارسة البرودة، وأدى استخدام القباب في تغطية بيت الصلاة إلى تقليل الإضاءة الطبيعية داخل الجامع، والحد من كميات الهواء المنعش، وكانت عناصر الإضاءة والتهوية من أهم ما حرصت منشآت المماليك على توفيره للمصلين في المساجد والمدارس، وبفضل الصحن الأوسط الذي كانت ظلات الصلاة أو إيوانات المدارس تدور حوله.

وتقف مدرسة السلطان حسن بميدان القلعة في مواجهة جامع محمد علي، بهيئتها المهيبة وروعة تصميمها وزخارفها، حتى إن مؤرخي الفنون أطلقوا عليها اسم “هرم العمارة الإسلامية ” لتكون بمثابة التحدي الذي لم يستطع المهندس التركي يوسف بوشناق أن يواجهه.

وجامع محمد علي المستعار من تركيا - تصميما وزخرفة - سرعان ما تسرب إليه العطب بعد أقل من ثمانين عاما من تشييده , حيث أخذت القبة المركزية الضخمة في التصدع . وهو ما دفع المهندسين في عام 1935 إلى إزالة القبة الكبيرة وما حولها من أنصاف القباب والقباب الصغيرة وإعادة بنائها من جديد بعد عمل “شدة ”، وهي هيكل من الصلب المجمع يكون في مجموعه عدة أبراج مستقلة وعقودا تشيد بنسب معينة لتحمل القباب والعقود عند الهدم والبناء.

ويرجع الخلل الذي أصاب القبة، وهي المشيدة تحت إشراف أتراك أحضروا خصيصا من الأستانة، إلى ضعف الأجزاء التي تقوم بتوزيع الأحمال في المبنى ومنها العقود . والأكتاف الحاملة لها، وكان العامل الأول في هذا الخلل هو عدم كفاية تثبيت أطراف الشدادات الحديدية الرابطة لأرجل العقود الأربعة الحاملة للقبة الكبيرة، وعدم وجود شدادادت للقباب الصغيرة، مما ترتب عليه تفتت أحجار أرجل العقود تحت وطأة حمل القبة الكبيرة ودفع العقود للجدران الخارجية وهو ما أدى إلى تصدع القبة فضلا عن عدد من الشروخ التي نتجت عن تآكل الروابط الحديدية التي كانت تربط قطع الأحجار المبنى بها المسجد، وتعطن أخشاب كانت مستخدمة داخل بناء القبة.

وقد شيدت القبة المركزية الحالية، وأنصاف القباب والقباب الركنية الصغيرة من الخشب المصفح برقائق من الرصاص، ولكن بنفس هيئة وزخارف البناء الأصلي للجامع، وبلغت تكلفة هذا التجديد الذي أجري في عام 1939 حوالي مئة ألف جنيه مصري تحملتها خزانة الدولة آنذاك. ويبقى جامع محمد علي بمآذنه الشاهقة أحد أبرز معالم القاهرة السياحية.

back to top