الأصل في الطغيان هو الأنانية والكسل، أو الميل الإنساني إلى محاباة الذات وبذل جهد أقل، فاجتثاث الخصوم بالعنف أسهل من منازعات صعبة وتسويات قلقة وقرارات غير مضمونة، بيد أن العنف الاستئصالي لا يكفي وحده لرفض السياسة على هذا النحو. يقتضي الأمر عقيدة إجماع تسوغ رفض التسويات السياسية بعدم وجود منازعات وخصومات وصراعات اجتماعية أصلاً، فليس غير عقيدة كهذه تظهر أنانية نظام الطغيان كغيرية وتضحية، أو لنقل إن لزوم العقيدة نابع من حاجة الطغيان إلى إظهار نفسه كفعل حب خالص، فلا فرق بين الطاغية والجمهور، إنه ابن الشعب وحبيب الملايين والقائد المفدى. وتسهم عقيدة الإجماع أيضاً في توحيد الفريق الطغياني ورصه على بعضه بما يعدم أي فوارق واختلافات داخله، فيكمل بذلك فعل الخوف، خوف أعضاء الطغمة من بعضهم وخوفهم من الطاغية وخوفهم من الجمهور. النظام يقتضي نزع السياسة (أي المنازعة والاستقلال والمبادرة المستقلة...) من هذا الفريق ذاته كي يكون هذا أداة صالحة لجبايتها أو مصادرتها من المجتمع المحكوم. ولا يستطيع الطغيان أن يجرد محكوميه من السياسة من دون أن يجرد نفسه منها، إلا أنه بذلك يفقد القدرة أيضا على سوس طغمته نفسه وضبطها والتحكم فيها، فلا تلبث أن تظهر عليها أعراض انحلال وتهتك، على نحو ما اتسم به سلوك «النومنكلاتورة» (الطبقة الحاكمة) السوفييتية ونظيراتها في البلدان «الاشتراكية» السابقة من فجور وخلاعة وانغماس في الشهوات.
بيد أن الميل إلى تقليل الجهد ميل إنساني عام، فكيف يؤسس للكسل والطغيان في بعض المجتمعات، وللعقلانية واستقلال السياسة في بعض آخر؟ قد يكمن الجواب في المقاومة. السلطات جميعاً تنحو إلى التوسع والطغيان ما لم تواجه بمقاومات تحد منها وتضبطها بحدود ثابتة لا تتعداها. ولعل هناك نقطة مهمة أخرى هي فكرة القانون أو الضوابط والقواعد المستقرة الناظمة لعمل السلطات. وفي الغرب الحديث التقى العاملان معا، أو ان المقاومات التي كانت في أصل الدولة الحديثة كانت مسلحة بالفلسفة اليونانية والقانون الروماني وبأفكار مثل الجمهورية والديمقراطية والحرية. في المحصلة دفعت المقاومات التحررية وفكرة القانون إلى تكون السياسة كمجال مستقل لتراكم نوعي، وولّدت السياسة بوصفها «نداءً باطناً» أو «سعياً» حسب ماكس فيبر. يتعلق الأمر بـ«قفزة نوعية» في السياسة والسياسي، تتمثل في تشكلها مَلَكة سياسية مستقلة، أو «عضواً» سياسياً يرتاح إلى الجهد والنشاط، وتلتقي فكرتا المقاومة والقانون في مبدأ فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، الذي ينسب لمونتسكيو. في بلداننا يحصل أن تنهض مقاومات كبيرة وشجاعة، لكنها ضامرة فكرياً وروحياً في الغالب، وتجمع بدورها بين استسهال العنف وبين عقيدة إجماع قومية أو دينية، فلا تشكل قطيعة مع الطغيان، وبصورة عامة فإن الإلحاح الحصري على فكرة المقاومة في عالمنا السياسي والثقافي، من دون فكرة القانون والحرية، هو بمنزلة تعويل على طغيان للتخلص من طغيان. نعود إلى القول إن الطغيان محكوم بتناقض ذاتي يقوده إلى نهايته: إنه لا ينجح في تحريم السياسة على محكوميه من دون أن يحرم نفسه منها، وهذا ما يفضي إلى عجزه عن التكيف المرن أو ابتكار حلول جديدة لمشكلات جديدة يستحيل تجنبها، فيقود نفسه بنفسه إلا الاندثار. هذه باختصار هي جدلية الطغيان المحدث أو الشمولية، وهي تذكر بجدلية الملك عند ابن خلدون وأجياله «الطبيعية»، فهل من العجيب أن الشمولية كما عرفها القرن العشرين أقرب إلى «الملك الطبيعي» بمصطلح ابن خلدون، أو الطغيان بالمصطلح الإغريقي؟ لكن إذا عرف السبب بطل العجب، فبين الملك الطبيعي والشمولية مشتركان: أولهما، رفض السياسة، وما تفترضه هذه من أن المصالح الاجتماعية المتعارضة متساوية في شرعيتها. وثانيهما، ان الفريق الطغياني المفرغ من السياسة هو بمنزلة عصبية محدثة مصطنعة، فلا غرابة أن تسري عليه قوانين الملك القائم على العصبية. لذلك فالقول إن النظم من هذا النوع تحتكر السياسة لنفسها غير صحيح، فهي نفسها منزوعة السياسة كشرط لتمكنها من نزع السياسة من السكان، لكن نزع السياسة يعني نزع المنافسة والمبادرة والتعدد من المجتمع المحكوم لمصلحة الامتثال والخوف، وحرمان النظام ككل من آليات مراجعة وتصحيح يستدرك بها أسوأ أخطائه، وهو ما يفضي إلى فقدان الدافعية على الابتكار السياسي، ويتسبب في تدني مستوى فريق الحكم، سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، فالكسل لا ينتج إلا مزيداً من الكسل والانحطاط. وهذه نتيجة مطردة نلمسها عندنا بدرجة تتناسب مع نجاح نظمنا في محق السياسة واستئصالها، وليس التدني هذا غير صيغة أخرى للقول إن الفريق هذا أضحى عاجزاً عن سوس نفسه، مستسلماً لشهواته وفساده وانحطاطه. لكن هل القانون المفضي إلى انحلال الطغيان حتمي على نحو ما كان الحال بصدد انحطاط الدول الخلدونية؟ الواقع، إن الاتحاد السوفييتي مثال على ذلك، لكن الاتحاد السوفييتي كان منظومة كبرى مستقلة، وتفاعلاتها الداخلية تتغلب إلى حد كبير على تفاعلاتها مع العالم. وقد أسهم الحصار الغربي ذاته في تعزيز استقلالها والدور المقرر لتفاعلاتها الداخلية التي أفضت أخيراً إلى انحطاط نخبة السلطة وعجزها عن تسيير شؤون بلد قاري. الأمر ليس كذلك بخصوص الدول العربية. هنا يستطيع الطغيان أن يتجدد لأن المنظومة غير مستقلة، ولأنها تنال أشكالاً مختلفة من الدعم والتغذية من خارجها. تفاعلاتها الخارجية لها دور حاسم وقد تتفوق على تفاعلاتها الداخلية، وهذا هو أصلا معنى أنها غير مستقلة. في مثل هذه الحالة الدينامية الذاتية للطغيان تتشوش أو تتعطل بالكامل، فلا تفضي إلا الانهيار رغم تفسخ عياني لفريق الحكم، وفي مثل هذه الحالة علينا النظر في المنظومة الكلية وتبين دينامياتها وتناقضاتها الذاتية، ويبدو لنا أن «الشرق الأوسط» هو اسم المنظومة التي تدرج ضمنها الدول العربية، وهي منظومة تشمل الغرب المعاصر، السياسي والاقتصادي، وقيادته الأميركية بالخصوص. لا تكفي الدول «السيدة» القائمة هنا إطاراً لمقاربة الطغيان ودينامياته المحركة. نحتاج إلى مقاربة أوسع تضع الطغيان في سياق عالمي. على اننا نعتقد أن الطغيان هذا بدوره مخرج من صعوبة السياسة، وإن كانت الأطراف الأخرى هنا دولاً ومجتمعات أخرى. * كاتب ومفكر سوري
مقالات
الطغيان مخرجاً من صعوبة السياسة 2-2
17-07-2008