أرتب هذه الأيام مجموعات الصور التي صورتها خلال السنوات الخمسين الماضية ومعظمها للعائلة والأصدقاء، وأنا موقن أن الكثيرين يحتفظون بصور مماثلة لأهلهيم وهم أهل الكويت جميعاً، وأجزم أن الكل حين يقارن بين صور الكويتيين قبل أربعين أو خمسين عاماً سيرى الرِدّة التي حدثت للكويت بفعل وتأثير الجماعات الدينية. كان آباؤنا وأمهاتنا أكثر قبولاً للتغيير في هيئتنا وسلوكنا بما يتفق مع العصر مما يحدث الآن ولا أعتقد أن أيا كان يمكن أن يدعي أنه أكثر فهماً للإسلام وتعاليمه من أهالينا في ذلك الوقت.
كان في الكويت شيوخ دين صالحون وكان آباؤنا وأمهاتنا ومدرسونا يعلموننا أصول الدين وتعاليمه وسلوك المسلم، ولكن كانوا دائماً يرددون أن الله لا ينظر إلى أشكالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على ما أسرّوا من نوايا وما أضمروا من سوء، ولم يكن اللباس أو شكل المسلم هو غاية الدين في وقتهم عندما كنا تحت كنفهم. من الصور التي توقفت عندها كانت احتفالاتنا الرياضية ومشاركة الفتيات فيها، وكان أفراد العائلة كلهم يذهبون لمشاهدة أبنائهم وبناتهم والتصفيق لهم. وصور الطلبة في القاهرة وهم يجتمعون ويحتفلون في رابطة الطلبة ثم في اتحاد الطلبة وكانت العلاقة بين الطلبة والطالبات كلها احترام وتقدير رغم أن الكل كان يلبس أحدث الموضات. كان الطالب يرى في الطالبة أخته وزميلته في الدراسة ورفيقته في المطالب والمواقف الوطنية ولم نسمع أو نرى ما يدعيه دعاة الانغلاق وفصل البنين عن البنات هذه الأيام من خلل في العلاقة بينهما. عندما قررنا أن ننقل اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة إلى جامعة الكويت أجرينا استبياناً لاستطلاع آراء الطلبة والطالبة في استمرار العمل بالنظام المختلط أو في فصل الطلبة عن الطالبات بناء على اقتراح من أحد أعضاء المجلس الإداري للاتحاد، فكانت النتيجة المتوقعة أن الطلبة والطالبات صوتوا بنسبة تزيد على 90% لمصلحة الاتحاد المختلط وكانت فكرة فصل الطلبة عن الطالبات مرفوضة من الجميع بمن فيهم أولياء الأمور. عندما كانت العائلات الكويتية تسافر في إجازة الصيف وغيرها خارج البلاد كانت نساء الكويت يلبسن ما يرونه مناسباً لأعمارهن والموضة، ولكنهن لم يكن يبتذلن ليس بأمر من أحد، ولكن بحكم الحرص الذاتي على عدم الإساءة لأهلهن. كانت النساء يلبسن آخر صيحات الموضة ولم يكن أهلهن المتدينون أو شيوخ البلاد يزيد توجيههم عن النصيحة. في مقاهي وفنادق الكويت وفي جمعيات النفع العام كان الجو مريحاً في العلاقة بين الرجال والنساء. لم نسمع عن فرد تعدى على امرأة لأنها جلست في مطعم أو في جمعية وأكلت أو ناقشت مع مجموعة من أقربائها أو أصدقائها من الرجال. كانت الحفلات في الفنادق والسهرات العامة والخاصة تزخر بالنشاط البريء، وكان أي شخص يحاول أن يخرج عن المألوف أو الإساءة للغير يُستهجن ويُبعد عن المكان ولم نسمع بحادثة اعتداء أو إساءة لذلك الجو من الفرح والبهجة بين المشاركين. كأي مجتمع في العالم كان هناك مَن يبحث عن اللذة أو يريد له جواً خاصاً، ولكن هؤلاء لهم مواطنهم ومواقعهم الخاصة بعيداً عن أعين الناس وإحراجهم. كانوا يستترون حتى لا يثيروا المجتمع ولم يأتوا بما يضر الآخرين غير أنفسهم. صور عشناها من العلاقات الاجتماعية البسيطة القائمة على احترام خصوصية الآخر، وكان حين ينتقد فرد ابناً أو ابنةً لشخص آخر يُرد عليه بأن الأب هو المسؤول ومادام راضياً فلا دخل لأحد في تصرف أبنائه. كنا مجتمعاً عاملاً ومنشغلاً بأمور جادة تهم البلد والمجتمع ولم يتفرغ أحد لشد الناس عن دنياهم كما يفعلون ليل نهار هذه الأيام. كان الناس يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون أبداً... ويعملون لآخرتهم كأنهم يموتون غداً. كان التوازن في حياتنا مريحاً نعرف متى نذهب للصلاة، ونعرف متى يحلو السهر، ونعرف الحدود في علاقات الرجال والنساء فلا نقبل بالخلل مهما كان. حين استعرضت الصور تألمت لما جرنا إليه مجموعة من القلقين الذين لا يرون في هذا العصر إلا الشر ولا يرون في علاقة الرجل بالمرأة إلا المفسدة. ووجدوا أن الحل لمشاكل العصر بالهروب منه والرجوع إلى الكهوف وانتظار الموت. وأقول قلقين لأن هذا العصر فيه الكثير مما يقلق، ولكنني أظن أن العقل خانهم فلم يجدوا حلاً إلا بالتحريم والزجر والنهي. خانهم العقل فلم يجدوا وسيلة ليعيشوا العصر ويواجهوا ما يعتقدونه شراً بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرأي السديد والبحث العلمي وإعداد الناس للتغلب على إغراءات ما تبثه وسائل الاتصال الحديثة. إنهم يهربون من المواجهة ويعملون على تقييد المجتمع وإعادته إلى عصور ولّت اختاروها من بين العصور الأسوأ في تاريخ العالم الإسلامي والأكثر تخلفاً. وفي هروبهم وحث الناس على اللحاق بهم هم يجْنون على مجتمعهم ويخلقون أجيالا مهزوزة ضائعة. إن شبابنا اليوم حائرٌ بين مَن يدعو إلى الانفتاح من دون حدود وبين الانغلاق التام. جيلنا الحالي والقادم بحاجة الى «نجدة» تزيح كلا الاتجاهين المتطرفين عن طريقه. نجدة تحصنه أمام الجديد وتعده للمستقبل بمعرفة وتجربة ما يجود به العلم الحديث والانتفاع بما يسره ويبهجه من منتجاته بالاختيار السليم والحكيم لما ينفعه وينفع الناس ولا يسيء إلى نفسه أو إلى أهله. نجدة تعيده إلى مجتمع وحياة كويت الخمسينيات والستينيات عندما كنا مجتمعا سليماً معافى من دون عُقد.
مقالات
أين منه... ذلك الأمس؟
12-06-2008