كان انتصار العباسيين على الأمويين فرصة لكثير من الأمم التي أخذت تسترد مكانتها وشعرت بشخصيتها التي ترقد بها بذور فلسفات قديمة، وأديان عفى عليها الزمن، ومعتقدات مهجورة وبقايا خرافات منسية، فبدأت تزدهر هذه المعتقدات، وبدا أثر تلك النحل الكامنة في سلالة المانويين وأبناء المجوس، وذرية الوثنيين، والقائلين بالحلول وتناسخ الأرواح، وبعد استقرار الأمور بدأت هذه النزعات الخافية في كيانات الأمم تظهر شيئا فشيئا، وزاد في ظهورها ما اكتسبوه من النفوذ السياسي، وانتشار حرية الفكر، وابتداء عهد التفكير الفلسفي والبحث العلمي. وكان عودة الحياة والانتعاش إلى هذه العقائد البالية من أسباب كثرة الفتن والثورات التي لقي العباسيون منها الأمرين، لأنه من المتفق عليه أن كل قائد طموح، أو داعية مهووس، كان يستطيع أن يجمع حوله طائفة تصدق بدعوته، وتسير تحت لوائه.

Ad

من تلك الثورات.. "ثورة الرواندية” الذين ثاروا ضد الخليفة أبوجعفر المنصور، وكادوا يفتكون به في مدينة الهاشمية، التي بناها المنصور حين تولى أمر الخلافة، على مقربة من مدينة الكوفة.

في سنة 140 هـ، خرج أبوجعفر المنصور من الهاشمية حاجا، فأحرم في الحيرة، ثم رجع بعدما قضى حجه إلى المدينة، ومنها توجه إلى بيت المقدس، ثم عاد إلى الهاشمية، وبعد عودته بزمن يسير ظهر أمر الرواندية، وهم أتباع أبي الحسين أحمد بن يحيى بن اسحق الرواندي، المعروف بـ "ابن الرواندي”، ينتمى في الأصل إلى خراسان، وعاش ببغداد ويعتبر من زنادقة عصره المعدودين، وله كتب كثيرة كان ينكر فيها الإسلا ، وكان له مريدون وأتباع يروجون لفكره وكلهم كانوا من الملاحدة، الذين جمعوا بين الاعتقاد بتناسخ الأرواح، والإيمان بمذهب الحلول، فزعموا أن روح آدم عليه السلام حلت في عثمان بن نهيك كبير حرس المنصور، وأن المنصور هو ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم، وأن الهيثم بن معاوية هو جبرائيل.

جمع هؤلاء أنفسهم وأتوا إلى قصر المنصور ـ وقد أخذتهم الحماسة ـ وظلوا يقولون: هذا قصر ربنا.. هذا قصر رب العزة الذي يطعمنا ويسقينا، وظلوا على ذلك لعدة أيام.

كان المنصور رجلا سياسيا مطبوعا، ينظر إلى الأمور أول ما ينظر من زاوية سياسية، فلم ير في باديء الأمر عظيم خطر، وكان يؤثر الإغضاء عنهم، والصبر عليهم حتى تفتر دعوتهم، لكن أمرهم استفحل، ودعوتهم اشتدت، وأخذ الفقهاء وعامة الشعب يتذمرون من مسلكهم، ويتحدثون عن سكوت الخليفة عنهم وتهاونه في أمرهم، فخشى المنصور تزايد الفتنة، فاستدعى رؤساءهم وحبس منهم مائتين، وأمر ألا يجتمعوا، فكان لهذا التصرف نتيجة غريبة، فبدلا من أن يعتدلوا في دعوتهم ويكفوا عن المغالاة في تمجيد المنصور، اعتقدوا أن المنصور غير أهل لتلك المنزلة، فعقدوا العزم على قتله، ليتجسد الله في شخصية أكمل من شخصية المنصور !!

ولم يجد هؤلاء بداً من محاربة المنصور، وعمدوا إلى حيلة غريبة، فأعدوا نعشا، وحملوه وهو فارغ، ثم مروا في المدينة حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس، ثم اقتحموا السجن وأخرجوا أصحابهم، ثم قصدوا قصر المنصور وكانوا قرابة ستمائة رجل، واشتد الهرج، وتعالت الأصوات، وساد الاضطراب، وتنادى الناس، وأغلقت أبواب المدينة، فأسرع إليهم عثمان بن نهبك كبير حرس المنصور ليكبح جماحهم، فلم يفلح كلامه معهم وقتلوه.

أدرك المنصور أن الموقف يحتاج إلى سرعة البت، وإلى خطوة جريئة، فلما قال له أحد أعوانه: إن خير علاج للموقف هو أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، خالفه في ذلك وقال له: وأين الأموال؟ ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج؟، وأجمع على الخروج بنفسه مهما كانت شدة الخطر، لاعتقاده أن الناس إذا رأوه قاتلوا وأبلوا، وأنه إذا ظل مختفيا في قصره تخاذلوا وتهاونوا، وخرج رغم اعتراض عدد من رجاله.

لما رأى الناس المنصور بقامته الفارعة، وطلعته المهيبة، وما يبدو عليه من أمارات العزم والثبات، عادت ثقتهم في أنفسهم، وأخذوا في مقاومة الرواندية، فتكاثرت الرواندية على المنصور حتى كادوا يقتلونه، وإذا برجل ملثم يشق إليهم الجموع، حتى ردهم عن المنصور، وأخذ بعد ذلك بلجام دابة المنصور، ثم فتحت أبواب المدينة ودخل الناس، وكانت أنباء الثورة والاضطراب قد وصلت أسماع القائد القدير خازم بن خزيمة، فأقبل في جنده، واستأذن المنصور في قتالهم واستئصال شأفتهم، فأذن له، فحمل عليهم حتى هزمهم، وقتلوا جميعا بعد أن أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن أنفسهم، ولما هدأت الحالة اختفى الرجل الملثم في غمار الجموع، فسأل عنه المنصور وعرف أنه معن ابن زائدة، الذي كان بينه وبين المنصور خصومة سابقة، فأعلن المنصور أنه سامحه وغفر له قديم ذنبه، وطلب في استدعائه للعشاء معه بين رجاله وحاشيته، ولما فرغوا من العشاء التفت المنصور إلى عيسى بن علي وقال له: يا أبا العباس.. أسمعت بأسد الرجال؟.. قال: نعم، فقال له المنصور: لو رأيت اليوم معنا علمت أنه من تلك الآساد، فأجابه معن: والله يا أمير المؤمنين لقد آتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ماعندك من الاستهانة بهم، وشدة الإقدام عليهم رأيت أمرا لم أره من خلق في حرب، فشد ذلك من قلبي، وحملني على ما رأيت مني، فأمر المنصور له بعد ذلك بعشرة آلاف درهم، وقربه، وولاه على اليمن.

أظهرت ثورة الرواندية ضد المنصور أن نظام جيشه في أشد الحاجة للإصلاح السريع، وكشفت له عن رغبة أهل العراق الدائمة في ذلك الحين في الثورة، واقتنع بضرورة وجود عاصمة جديدة لحفظ كيان الأسرة العباسية، وكان أن هداه تفكيره لبناء مدينة بغداد لتكون قاعدة حكم العباسيين، فبناها على أعظم ما يكون بناء المدن، وحصنها بما فيه الكفاية، وجعلها حاضرة العالم الإسلامي كله في زمنها، وعروس كل المدن، وقبلة العلماء والفقهاء والشعراء من شتى بقاع الأمة الإسلامية.