مضى فصلا الشتاء والربيع، وحدد العرض الأول في لهيب الصيف. القاعة مكتظة بالحشود جالسين وواقفين، ترسل الابتسامات والتلويحات بالأيدي والقبلات الطائرة عبر الأثير والقفص الحديدي ومن فوق رؤوس عناصر الشرطة. يوعز القاضي بوقف أي إشارات متبادلة تحت طائلة الطرد. يختزل التواصل الهوائي إلى تلميحات بالأعين، ابتسامات مكتومة، وتلويح منخفض للأصابع من وراء المقاعد، يشبه تلويحا هاربا من دائرة الحظر.

Ad

يتداخل الانفعال والتأثر مع فكاهة مفارقة. أقول في نفسي، إما أننا أصبحنا أقل إحساسا! وإما أكثر تكيفا. لكن ما علاقة ذلك بالفكاهة؟!

أحد عشر رجلا، داخل القفص الحديدي. أردد بيني وبين نفسي أنغام أغنية لا أذكرها؛ عبثا أحاول التركيز على سير المحاكمة.

ثمانية أشهر مضت منذ أوائل ديسمبر الكئيب ذاك. أيام اعتقال أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق.

كانت الجلسة الأولى، جلسة محاكمة أمام القضاء العادي، تعني أمرا واحدا، اللقاء بعد أشهر من الغياب، تليها أشهر أو سنوات أخرى من الغياب بعد صدور الحكم، يفترض أن يكون هذا مكان وزمان الكآبة والشجاعة، فأي منهما أخلى مساحته لشيء من المرح؟!

يقول القاضي: أنت متهم بالانتماء إلى جمعية سرية والنيل من هيبة الدولة ونشر الأخبار الكاذبة. تتكرر العبارة اثنتي عشرة مرة بعدد المعتقلين. مع التكرار أصبحت همسات من الجمهور تُسمع، وهي تتلو التهم مع القاضي مصحوبة بالابتسام. لماذا قد تخلق تلاوة تهم تصل عقوباتها إلى سنوات سجن مديدة، إيقاعا مرحا، حسا بالفكاهة؟!

قد لا يتعدى الأمر كونه وسيلة دفاعية لا شعورية، ضد الإحباط والملل والألم. وقد يكون ما يحتويه المشهد بالفعل من كاريكاتورية وهزلية تعجز مشاهد الصرامة والحزم والانضباط عن إضفاء أي جدية عليها. الاعتقال والإجراءات والمحاكمة، كل شيء يبدو أشبه بتمثيلية نعرف تفاصيلها جيدا. نعرف مؤلفها ومخرجها ومنتجها وممثليها، وليس لدينا الكثير لنتوقعه ونفاجَأ به.

التفاصيل نفسها والحوار نفسه، وحتى الأشخاص والجدران، والمشاهد نفسها عبر نافذة القاعة إياها، تكرار لا يخلق أي نوع من الحميمية مع المكان ولحظاته. لا تجربة ولا حنين، فقط تكرار يوحي بالعدم.

حتى قبل سنوات قليلة من الآن، كان لمثل هذه اللحظات معنى مغاير، كان هناك أمل طفولي، ليس فقط لأن التكرار لم يكن قد بدأ بصورته الفجة هذه بعد، لكن لأن مجمل الأمور لم تكن كما هي اليوم. وقاحة الأشياء اليوم تصدم كل ما كان موجودا من قبل وتفاقم وتضخم وتعملق. الفساد والبؤس المعيشي والتردي في الحياة، الحياة بحد ذاتها أصبحت تعاش أقل بكثير من قبل أناس أكثر بكثير.

تراكم المآسي يحتاج إلى مقاومة. والمقاومة تحتاج إلى مناعة ضد اليأس واللاجدوى، وكأن الفكاهة تنبثق هنا بالذات.

بالتأكيد ليست لحظات ألم الآخرين هي التي يمكن الابتسام في مواجهتها. ليست عائلات اثني عشر معتقلا ومعتقلة، من الأطفال والآباء والأمهات والزوجات- وليس الأزواج، لأن زوج السيدة فداء جرى ترحيله من البلد منذ أشهر!

بالتأكيد ليس مظهر السيدة فداء، تجلس على الكرسي الخشبي في المحكمة وهي تلقي برداء السجن على يدها. وليس المعتقلون الذين زجوا في القفص الحديدي لقاعة المحكمة الكتاب والصحافيين والأطباء والصناعيين والمدرسين مربي الأجيال.

بالتأكيد ليس الخوف من النظر في عيني أحدهم، الكاتب الصحافي علي العبدالله، الذي يقبع في سجن عدرا عاجزا وعائلته عن معرفة مصير ابنهم عمر، ابن الثلاثة والعشرين ربيعا، المعتقل الديمقراطي في سجن صيدنايا المغلق والمعتم على أخباره بعد التمرد إياه.

بالتأكيد ليست أي من التفاصيل الإنسانية الصغيرة التي تتعلق بأوضاعهم الصحية والأسرية والمادية.

هذه أمور تبعث على الأسى وليس أي شيء آخر. وتخلق مع مجمل القضايا الأخرى المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان على اختلافها وتنوعها، تخلق شعورا قاسيا بالعجز. ومع الوقت، يغدو الهدف هو التخفيف من حدة الألم وليس إزالته، معالجة مظاهره وليس أسبابه. اطلب المستطاع كي تطاع! مع تمام المعرفة بأنك لن تطاع أو يلتفت أصلا إليك.

هنا لا يبقى إلا الأمل الناجم عن مقاومة ناتجة عن مناعة نصلها الفكاهة.

الابتسامات المكتومة، والإشارات الملغزة. التندر على التهم مكررة سقيمة كنكتة قديمة ومملة. صفارة جهاز التفتيش على باب القاعة تلعلع بتصفير غير متناسق طوال الوقت. المخبر في المقعد الأول يستأذنني لأفسح له مجالا للجلوس، وتفاصيل أخرى كثيرة تخفف من وقع الحدث الأصلي الكئيب، وتبعث على الابتسام بعناد وأمل.

إما اننا أصبحنا أقل إحساسا، وإما أكثر تكيفا، وإما انها فقط حلاوة الروح!

* كاتبة سورية