Ad

إن المقاربة الأوروبية، لا يمكنها إلا أن تدرج العلاقة بالدولة العبرية في خانة الاستثناء، لذلك نراها، لدى سعيها إلى ضم الدولة العبرية إلى اتحادها، وإن في منزلة «شبه العضو»، تتسامح حيالها في ما لا تتسامح فيه حيال كل طامح سواها إلى مثل تلك العلاقة الخاصة.

قد تكون القارة الأوروبية، وهي تستعد وتعد العدة، السياسية والقانونية، لاستيعاب الدولة العبرية ضمن دول اتحادها، وإن بمنزلة «شبه العضو»، بصدد إنهاء مسار أو طور من أطوار تاريخ علاقتها باليهود، أولئك الذين نبذتهم من بين ظهرانيها شعبا، اضطهدته، حتى أخرجته، لدواع دينية ثم لأسباب قومية، وأضحت الآن على أهبة استعادتهم دولةً.

وقد تكون القارة القديمة ساعية، من وراء خطوتها الأخيرة هذه، إلى استكمال حل «المسألة اليهودية»، تلك التي انشغلت بها، على نحو دامٍ، ردحا من تاريخها طويلا، بلغ أوجه، مأساوية وقسوة وإجراما، في الحرب العالمية الثانية وما اقترفه النازيون خلالها. ولكن الخطوة الأخيرة تلك، إن تحققت وأُنجزت، ستكون على غرار كل الحلول التي سبقتها، «حلاًّ» من قبيل الكارثة ومن طينتها أو إمعانا فيها.

ذلك أنه لم يسبق لأوروبا، طوال تاريخها، أن اهتدت لحل لتلك «المسألة اليهودية» العتيدة، إلا وكان كارثيا، تمثل في غيتو العصر الوسيط أو أواخره، وفي البوغرومات (المذابح) وفي التصفيات وأعمال الإبادة العرقية، أو في، أفضل الحالات، في إدماجٍ، على قاعدة المواطنة، فشل بدوره لأنه أراد أن يحوّل فئة سمتها التمايز كمجموعة دينية، إلى أفراد. يندرج في منطق الكارثة تلك وفي مضمارها، بطبيعة الحال، الاستيطان اليهودي في فلسطين وقيام الدولة العبرية، الذي لم يفعل غير استبدال ضحية بضحية، أو إيجاد ضحية مستجدّة (الشعب الفلسطيني) للضحية التاريخية (اليهود)، بأن حوّل هذه الأخيرة إلى جلاد في أكبر مظلمة شهدها العصر الحديث، فأعاد بذلك إنتاج الكارثة، في التعاطي مع «المسألة اليهودية، ولكن على حساب الفلسطينيين هذه المرة.

ذلك أن الغرب الأوروبي، وقد اضطلع بدور يكاد يكون حصريا، من حيث التأسيس، في اجتراح المأساة الفلسطينية، إذ توهم تذليل «المسألة اليهودية» بأن مكن اليهود من «كيان قومي» ومن دولة، لم يهتد في معالجة تلك المسألة إلى حلّ، بالمعنى الحقيقي الذي ينهي مشكلة، بل إنه اكتفى بالتحلل منها وإخراجها من حيزها التاريخي التقليدي (أي القارّي الأوروبي) ونقلها إلى حيز آخر، هو ذلك الشرق أوسطي، ولا سيما الفلسطيني، أي بجعل «المسألة اليهودية» تلك مشكلة لسواه.

كأنه لا يمكن الغرب أن يبذل لليهود تعويضا أو تكفيرا، إلا على حساب سواه، وكأنه لا يسع اليهود أن يكونوا غربيين ناجزي الغربية، إلا خارجه، لا يتساوون به إلا إن هم انتحلوا وظيفته حيال العالم غير الغربي (الشرق أوسطي في هذه الحالة)، كما تبدت تلك الوظيفة في القرن التاسع عشر، أي استعماراً وتسلطا واغتصابا، انضوت فيه الحركة الصهيونية، على ما يدل مسارها بجلاء وإسهاب، وهو المسار الكاشف، بالنظر إلى كل ذلك، إلى أي مدى تمثّل إسرائيل نتوءا إشكاليا متأزما للغرب الذي صدرت عنه، لا امتدادا تلقائيا له.

ولأن حل «المسألة اليهودية» لا يمكنه أن يكون غربيا، أي لا يمكنه أن يتحقق إلا خارج الغرب، وبإجحاف يصار إلى إلحاقه بآخر ليست له من علاقة بتلك المسألة سوى أنها حُلت على حسابه، فإن المقاربة الأوروبية (وهذه قد لا تكون مطابقة لنظيرتها الأميركية مطابقة تامة) لا يمكنها إلا أن تدرج العلاقة بالدولة العبرية في خانة الاستثناء، لذلك، نراها، لدى سعيها إلى ضم الدولة العبرية إلى اتحادها، وإن في منزلة «شبه العضو»، تتسامح حيالها في ما لا تتسامح فيه حيال كل طامح سواها إلى مثل تلك العلاقة الخاصة، فلا تعتبر انتهاك إسرائيل للحقوق الجماعية والفردية للفلسطينيين، من احتلال ومن استيطان متماديين ومن حصار ومن اضطهاد، عائقا دون ذلك الانضمام، بحيث لا يمكن لهذا الأخير إلا أن يكون، في نهاية مطافه، من عوامل تأبيد الكارثة الفلسطينية، بالمصادقة على تلك الخروق في حق تلك الحقوق، على ما نوّه، محتجا، رئيس الحكومة الفلسطينية سليمان فياض.

ذلك أن إسرائيل والعلاقة معها، هي لدى الغرب، لا سيما الأوروبي، الحد الأقصى الذي يتوقف عنده الأخذ بالمبادئ والقيم، وهي عتبة الانتقال إلى منطقة «ما وراء الخير والخير»، وهي بذلك تمثل إشكالا أخلاقيا للغرب عصيا عويصا، فإذا كان حل «المسألة اليهودية»، بتمكين اليهود من «وطن قومي» ومن دولة، اعتبر، في نظر الغرب، أخلاقيا في ذاته إلا أن تحقيق ذلك المطلب في تلك الحالة العينية، تم على حساب الأخلاق كمبادئ، أي في ما يمثل كونيتها وشموليتها المفترضتين.

ربما عاد ذلك إلى كون الغرب درج على التماهي مع الكونية، وعلى اعتبار متطلباته الأخلاقية الخاصة والعينية متطلبات كونية، وتوسم في نفسه القدرة على وضع القواعد كما على اجتراح استثناءاتها.

* كاتب تونسي