تذكرت مقولة صديقي الشاعر صبري هاشم: «وراء كل نص جميل كاتب جميل»، وذلك حين قرأت نص «غبار» للكاتبة العمانية «بشرى الخلفان» قلت في سري: حتما من كتبت هذا النص الجميل من كل بد تحمل روحا جميلة، حتى تأتينا بكل هذا الألق المورق في رفرفة الكلمات المرتعشة، في حرارة صدقها وعفويتها واختراقها قلب القارئ من دون استئذان لرقتها وعذوبتها. في نصها «غبار» الذي هو أول نص اقرأه لها، وأول مرة أسمع بها وإن كنت قد سألت بعد ذلك وعرفت أن لها مجموعة قصصية جميلة بشهادة صديقة لي. هذا النص الحميم الذي يكشف دواخل امرأة تعشق بصمت رجلا لا يشعر بهذا الحب الخجول... الحب المخبأ في أدراج العفة والحياء والتقاليد... من واقع المجتمع الذكوري، وأولوية البوح الذكوري، ومبادرته، ومفاتحته، وإلا ستبقى الأسرار نائمة في أدراجها، وربما تموت من دون أن يشعر بها أحد. وأيضا في النص هذا الرصد للتحولات التي تمر بها مدينة مسقط، مثل كل مدننا الخليجية التي تتغير وتنسلخ عن ماضيها في سرعة رهيبة، وهذا ما رصدته «بشرى» في نصها الذي هو شاهد على هذه التغيرات المتحولة إلى تراث في عيون المستقبل القريب... بشرى تلصصت عليها برهافة الحنين المفتقد لها ولانزلاقها السريع إلى ماضيها حتى وهي تشاهدها وتسجلها وتكتبها بكل هذا الفقد الواعي بتسربها وتحولاتها. كتابة محملة بشجن الافتقاد المبكر لها ولماضيها أيضا الذي كان، والذي عايشته في طفولتها المفتقدة. كتابتها أشعرتني بالحنين إلى مسقط التي أحببتها وكتبت عنها في روايتي مزون، مسقط هذه هي نبع كل هذه المشاعر الفياضة التي أغدقتنا بها الكاتبة حتى نعيش معها تجوالها وحنينها وافتقادها لكل ما هو سائر إلى زواله وعدمه.

Ad

هذا النص برأي «رواية» كانت بحاجة إلى شيء من التقنية حتى تصبح رواية حداثية، وهذه بعض المقتطفات من «غبار»:

* «في البداية كنت ألتفت حتى أتيقن من حضورك، لكنني بعدها صرت التفت حتى أرى غيابك الذي يستشري بقسوة رغم الخطوات التي اعتبر أني أنجزتها في هذه الرحلة التي لا تحمل عنوانا سوى مطلق العذاب».

* «لكن عليك أن تتذكر أن التي تجلس إلى جانبك الآن ليست أكثر من مغامرة تحاول تتبع خيط الألم الذي نسج حياتها كلها حول فكرة».

* «امرأة ناضجة! ما الذي تعنيه هذه الكلمة التي ظلت تحاصرني في سني نموي، والسؤال الذي يلح علي دائما: كيف أصبح ناضجة؟ ناضجة كثمرة المانجو... ناضجة كحبات التين المكتنزة بالسكر... ناضجة كسمكة مشوية متبّلة بالبزارات... ناضجة... تعني أني أصبحت جاهزة للالتهام».

* «أين يأتي كل هذا؟ ولماذا أنت هنا اللحظة؟ لماذا لا تذهب إلى النوم وتريحني من وجع انتظارك؟ لماذا تنام وتستيقظ في وتعلقني في الصحو بين سكينتين، أنت وذاكرتي»؟

* «مسقط التي كانت واضحة في محبتها وفي عدائها أصبحت غامضة بالنسبة إلي، فرائحة الدهان الجديدة طغت على الروائح القديمة التي كانت تقودني في حنيني المزمن إلى الأماكن التي علمتها الذاكرة بخيط بريسم مرهف لا يريد الانقطاع، وتركتها بلا لون سوى لون الدهان الأبيض الذي يشوش على الذاكرة ويجعلها غائبة في حضور الجديد الذي لا ينتمي، الجديد الذي بلا معنى، الجديد الغارق في ذاته وكأن لا شيء قبله، وبالتأكيد واثق من أن لا شيء بعده».