انتشى الجمهور في العالم العربي، وهتف بحياة أردوغان مع الجماهير التركية، وعاير زعماءه لأنهم لم يكونوا بقدرة الزعيم التركي، ولا حتى زعيمي بوليفيا وفنزويلا، لكن أحداً لم يسأل: «ما الذي تملكه تركيا بحق ويمكن أن تستخدمه للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة بما يخدم المصلحة الفلسطينية؟».

Ad

في صيف عام 2005، كانت إسرائيل قد بدأت الانسحاب من قطاع غزة، تنفيذاً للقرار الذي تبناه رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون، وهو الأمر الذي دعا عدداً من الزملاء الصحافيين العرب إلى مداعبة كاتب عربي كبير، مقيم في لندن، في إحدى الجلسات التي جمعتهم، بالقول إنه «بات في مأزق حقيقي»؛ إذ لن يجد طرفاً يمكنه أن ينتقده ويهاجمه بقسوة خلال أسبوع على الأقل. لكن الكاتب الكبير كان أكثر فطنة وبعد نظر من الجميع؛ إذ علق قائلاً: «ليس ثمة مشكلة فشارون، الله يديمه، لن يتركني خالي الوفاض».

دخل شارون غيبوبته، إثر إصابته بجلطة في يناير 2006، فلم يتغير في الأمر شيء؛ إذ وجد كاتبنا ضالته دائماً في أولمرت أو باراك أو ليفني، وفوقهم وقبلهم جميعاً عنصرية إسرائيل وهمجيتها وعدوانها الدائم على الشعب الفلسطيني الأعزل.

كان الإشكال المتجدد، فيما يخص هذا الكاتب الموهوب والمؤثر، يتحدد في سياسته الدائمة في مدح كل من يمتلك نفوذاً سياسياً أو مالياً في العالم العربي، وفي انتهازه أنصاف الفرص، بل أشباهها، في تدبيج عبارات الإعجاب لفخامة الرئيس، وجلالة الملك، وصاحب السمو الأمير، وسمو الشيخ، ومعالي الأمين، وصاحب العزة «فلان» بك، أو الملياردير «علان» باشا.

والواقع أن كاتبنا الذي قسم مقالاته السياسية، على مدى حياته المهنية العامرة، بين مدح مواقف «الأصدقاء» من الحكام والأمراء والأثرياء العرب ومهاجمة إسرائيل وقادتها وإدانة تصرفاتهم وسلوكياتهم العدوانية الإجرامية، ظل يحظى دائماً بكل المكاسب ويتجنب أي خسارة، فمن جهة هو وطني وقومي وإنساني؛ إذ يخوض الحرب الشرسة ضد العنصرية الإسرائيلية دون كلل أو هوادة، ومن جهة أخرى نجح في أن يحقق ثراء ينقله من خانة أرباب القلم أصحاب الدخل المحدود إلى مستوى أصحاب الثروات المتنعمين بالرفاه والعيش الرغد؛ وفي ذلك قيل إنه «لم يدفع فلساً من جيبه لقاء مأكل أو مشرب أو إقامة أو سفر منذ نصف القرن».

ليس صاحبنا هذا هو المنتفع الوحيد من إجرام شارون وأمثاله من قادة هذه الدولة العنصرية المجرمة، ولكن هكذا أيضاً فعل سياسيون ومفكرون وإعلاميون ورجال دين وأفراد من جمهور شعوبنا العربية كلها، بل إن أنظمة وحكومات قامت أو مدت في أعمارها باستخدام الحلقة الجهنمية ذاتها: «سب إسرائيل ومدح أصحاب النفوذ الآخرين».

ويبدو أن اللعبة امتلكت من النفاذية والبريق والنجاعة ما جعلها صنعة عربية تحظى بالطلب والاستنساخ؛ فانتقل الأمر إلى جارنا التركي، الذي أعجبته تلك «التيمة» الفعالة: «هاجم إسرائيل في العلن، واخدمها في السر، واحصد الهتاف والمكانة من دون أي خسارة».

وصل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى بلاده نهاية الأسبوع الماضي عائداً من دافوس، فوجد أفواجاً من الجمهور في انتظاره، هاتفة له: «تركيا معك»، و«زعيم عالمي جديد»، و«لقد شاهد العالم قوة الأتراك»، و«الآن أصبح لنا مكان في أوروبا والعالم»، وهي هتافات لم يسمعها من قبل، رغم تاريخه السياسي المحترم، ومدائح لا يتوقعها هو أو زعيم تركي غيره حتى لو جنب بلاده تأثيرات الأزمة المالية العالمية، أو حسن برامجها الصحية والتأمينية، أو خفض معدلات البطالة، أو زاد النمو الاقتصادي، أو طور سلاحاً نووياً.

لم يفعل أرودغان الكثير، هو فقط تلاسن مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، وانسحب من لقاء معه وآخرين في منتدى دافوس، بعدما هاجم استخدام إسرائيل المفرط للقوة في عدوانها على غزة، وقتلها النساء والأطفال، وحصارها للشعب الفلسطيني الأعزل، وقصفها للمساجد.

انتشى الجمهور في العالم العربي، وهتف بحياة أردوغان مع الجماهير التركية، وعاير زعماءه لأنهم لم يكونوا بقدرة الزعيم التركي، ولا حتى زعيمي بوليفيا وفنزويلا، لكن أحداً لم يسأل: «ما الذي تملكه تركيا بحق ويمكن أن تستخدمه للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة بما يخدم المصلحة الفلسطينية؟».

كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949، ومنذ ذلك التاريخ والدولتان ترتبطان بعلاقات يمكن تصنيفها ببساطة بأنها «استراتيجية نوعية تتمتع بالاستدامة والتجدد والتطوير». وترتبط تل أبيب باتفاق للتعاون العسكري والأمني والاستراتيجي مع أنقرة منذ عام 1996، ينص، فيما ينص، على السماح للطائرات العسكرية الإسرائيلية بالتدريب في المطارات والأجواء التركية، وإجراء المناورات المشتركة، وبرامج للتصنيع الحربي، وتعاون في مجال صيانة الطائرات المقاتلة وتصنيع أجزاء منها.

وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 3.4 مليارات دولار في العام الماضي 2008، وهو الرقم الذي جعل إسرائيل تحتل المرتبة الثامنة على لائحة الدول الأكثر تبادلاً تجارياً مع الدولة العبرية، ويزور أكثر من نصف المليون سائح إسرائيلي تركيا سنوياً، لتكون دولة الخلافة العثمانية بذلك الوجهة السياحية الأولى لمواطني إسرائيل.

وتسجل صفقات الأسلحة التي تستوردها إسرائيل سنويا من تركيا نحو 1.5 مليار دولار، تشكل أحد مجالات التعاون الاستراتيجي الرفيع، الذي يسمح للدولتين بتبادل المعلومات الاستخباراتية في شأن «دول معادية»؛ ومن تلك الدول بالطبع إيران وعراق صدام وسورية، وهو الاتفاق الذي تم تدشينه في الخمسينيات من القرن الفائت، وظل فعالاً حيث ظهرت مفاعيله في التعاون ضد عمليات حزب العمال الكردستاني ضد أنقرة كما ظهرت في الضغط على سورية وفي تقديم المعلومات الاستخبارية الخاصة بالأوضاع في لبنان. وبالطبع فإن البلدين مرتبطان باتفاق للتجارة الحرة، ويبحثان مشروعاً لبيع المياه التركية لإسرائيل، وكانا نسقا تنسيقا رفيعا مع الولايات المتحدة أثناء فرض الحصار على العراق، قبل إتاحة الأجواء والقواعد العسكرية التركية لعملية الغزو ذاتها.

تواجه تركيا ضغوطاً صعبة في ما يتعلق بمسؤوليتها عن مذابح الأرمن المزعومة في 1915، كما تواجه انتقادات على قسوتها في قمع النزعات الكردية على أراضيها وخارجها، ولذلك فهي تحتاج الدعم والتعاون الاستراتيجي مع إسرائيل؛ وهو الأمر الذي بدا واضحاً في تصريحات أردوغان نفسه ووزير خارجيته علي باباجان من جهة وتصريحات بيريز من جهة أخرى. لا أحد في تركيا وإسرائيل يتحدث عن انفصام أو قطع للعلاقات، بل لا أحد إلا ويصفها بالقول الواحد بأنها «استراتيجية».

وكما فعل كاتبنا العربي الكبير وغيره من الكتاب والسياسيين، فعل أردوغان والدبلوماسية التركية: «نضال إنشائي ومواقف درامية ترضي الجمهور، ولا شيء حقيقياً يتحقق على الأرض». ولا عزاء لفلسطين.

* كاتب مصري