بلا شك ترتكز التجربة الشعرية إلى نداء عميق، نداء يحفر على الدوام مناطق الباطن السرية، كاشفاً في الوقت ذاته عن جرح شخصي أحياناً، وهذا النداء لا ينهض إلا كسؤال لا يستنفد نفسه أو كريح الصحراء التي لا تكف عن إزاحة الرمل. سعي وبحث متواصل عن شيء هو في العمق نبض العالم، وسره البعيد، مناسبة هذا الكلام هو رحيل الشاعر سركون بولص في مثل هذا الوقت من العام الماضي.
كان سركون بولص شاعراً متميزاً وانقلابياً وقف في قلب الحداثة الشعرية العربية وأحدث فيها شروخاً وارتجاجات وأخاديد قد نعرفها في مستقبل الأيام والسنوات عندما يلتفت إليه النقد العربي بجدية حقيقية.يبدو شعر سركون بولص متعدداً ومركباً كما لو أنه رحلة طالعة من عصور سحيقة، بالغة القدم ومن أغوار الكلام المضاعف، بحيث تطل القصيدة من مغارتها مع ما يتبعها من جذور وماء وحجارة وغابات، وكأن القصيدة تحاول أن تبارك العالم، بحضور قوي ومشع، رافعتها الكبرى كثافة الحياة المعيشة النابضة والحية والتعددية الاسلوبية والابتكارات اللغوية ذات الطابع التجريبي وهو يفعل ذلك بمنتهى المهارة.في قصيدته تشف اللغة بفضل «طرق» متواصل تماماً كعمل الحداد، اشتغال مركز لإزاحة اللغة الجاهزة المقولبة في اطر وعلائق سكونية لتندفع الى مصير آخر، الى مغامرة اخرى، حيث يصبح للغة حينذاك، «حرف مائل» كأننا أمام عبارة كارل كراوس التي تقول: «لغتي هي تلك المومس التي احولها الى عذراء».يمتلك سركون بولص مهارة وخاصية فريدة في «اللعب» تتجلى أحياناً بأسلوبية تأكيدية ومفارقة في التكرار.على الرغم من ذلك/ كذلك/ فوق ذلك/ بالاضافة الى ذلك/ أجد مكاني باستمرار/ كأنه رحم تستعيدني من العالم/.أريد أن أشكر الغبار الذي أحمله كالإرث اينما ذهبت.يكتب سركون بمخيلة هائلة، مخيلة تستدعي عوالم وكشوفات كأن الشاعر قد ضيع مفاتيح العودة وظل هناك تائهاً عبر الجبال والوديان، وهو يقودنا من مكان الى آخر بشفافية جارحة ونَفَسٍ غابوي. وإذا كانت قصيدة سركون «حركة معقدة» غرائبية فلأنها مليئة بالنقض والتوحش، مليئة بالقوة وبكائنات غريبة وأمكنة يتعايش فيها الوهم والحقيقة، انه شعر يجدف نفسه باستمرار بحثاً عن وجوده الخاص، المنخور بالألم والمتغذي عبر هذا كله بمفاجآت تظل تتوالد مثل خلية من الكلام. وفي شعر سركون هناك أيضاً طبقات الحنين الكثيفة هذه، حنين مبتور لكنه مستعاد بقوة الكلمة.من المؤكد أن التجربة الاميركية دفعت سركون الى الطرف الاقصى من المغامرة هو الذي استوعب مبكراً تجربة الشعر الاميركي منذ أن قدم لها عبر ترجماته خصوصاً في مجلة شعر في أواخر الستينيات. ليس هناك مجال للغة تنبؤية ومتعالية بل تفجير ذكي لمنابع الكلام، لهذا «اليومي» الحاضر أبداً بقوة، بحيث لا يتم اهماله أو نسيانه بل بالعكس امساكه وليّه إذا جاز التعبير بقوة الكلمة، كما أن هذا التصعيد الشعري لا يحدث عن طريق استحضار صور شعرية مقذوفة بنوع من المجانية السريعة، بل بدقة وشفافية عاليتين. «اوصيكم بالدقة» كتب الشاعر الفرنسي مالارميه ذات مرة. في دراسة بالانكليزية كتبتها اللبنانية الاميركية ميرين غصين قبل سنوات بعنوان ديناميكية الحركة في شعر سركون بولص مع نماذج شعرية ترجمها الى الانكليزية الشاعر نفسه، صدرت عن المؤسسة العربية الاميركية للشؤون الثقافية، في هذه الدراسة تصف الكاتبة شعر بولص بأنه يمتاز بكثافة حسية وحركة داخلية متوترة، هي تعبير وفي عن زخم الحياة وايقاعها المعقد.عندما التقينا قبل رحيله بشهر تقريباً في مدينة لوديف جنوب فرنسا كان يبدو متعباً لكن كبرياءه كانت تمنعه من الوقوع في فخ الفجاجة العاطفية كان كما لو كان يودع اصدقاءه بصمت، عارفاً في الوقت ذاته أنه راحل للبحث عن مدينة «أين».
توابل - مزاج
في الذكرى الأولى لرحيل سركون بولص حياة تنهض بقوة الكلمة
19-11-2008