تكويت المرض الهولندي
لا اعتراض على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين وزيادة رواتبهم، بشرط أن يكون ذلك مبنياً على دراسات اقتصادية لمواكبة معدلات التضخم وتشجيع الإنتاجية، ولكن بعد كل هذه المنح والزيادات والكوادر والمكافآت التي شهدناها خلال الثلاث سنوات الماضية، هل تطورت إنتاجية الموظف الكويتي؟!
أخيراً أُسدِل الستار على قضيتي زيادة «الخمسين ديناراً» وصندوق المعسرين، اللتين ساهمتا في حلّ مجلس الأمة السابق، وبإقرارهما يستمر أسلوب الإدارة غير المسؤولة للدولة، والتنافس ما بين البرلمان والحكومة على استنزاف النفط وهو مصدر الدخل الأوحد والناضب، وترسيخ عادات الكسل والاستهلاك وهدر المال العام، وطغيان الجرعة السياسية في القرارات الاقتصادية، من دون أدنى اعتبار لتبعات تلك القرارات على التنمية ومستوى المعيشة في ظل تخطي معدل التضخم حاجز العشرة في المئة.في النصف الأول من القرن الماضي كانت هولندا تتمتع بنمو اقتصادي وقوة عمل منتجة إلى أن تم اكتشاف الغاز الطبيعي في بحر الشمال في الستينيات، فاجتاحت المجتمع موجة ثراء سريع جنح معها العمال والموظفون إلى الكسل والمطالبة بتوزيع الثروة وانخفضت إنتاجيتهم، وصاحب ذلك زيادة في أجور العمل وارتفاع قيمة العملة المحلية نتيجة تدفق الأموال من الخارج، مما أدى إلى زيادة تكلفة المنتجات الهولندية الأخرى وخروجها من المنافسة في الأسواق العالمية، فطغى قطاع الغاز الطبيعي شيئاً فشيئاً على القطاعات الاقتصادية الأخرى، وأدى ذلك إلى انخفاض مستوى المعيشة العام وارتفاع معدلات البطالة نتيجة فقدان موظفي تلك القطاعات غير المنافسة لوظائفهم، فأصيبت هولندا بركود اقتصادي يُعرف الآن في علم الاقتصاد بـ«المرض الهولندي».إذن الاعتقاد السائد بأن إغراق المواطن بالمال الناتج عن زيادة الإيرادات النفطية يؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة هو اعتقاد خاطئ وقائم على آمال وهمية، فالشواهد التاريخية تبيِّن أن الدول التي تنعم بالثراء السهل وغير المستحق نتيجة اختزال اقتصادها في مصدر دخل واحد متمثل في مورد طبيعي ناضب كالنفط تتباطأ إنتاجيتها، وتنتهي إلى انخفاض مستوى المعيشة العام فيها نتيجة القيمة المضللة لعملتها وعدم تنافسية منتجاتها والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن ذلك. إضافة إلى ذلك يعم الفساد فيها نتيجة استغلال السلطة لتلك الإيرادات في ابتزاز المواطنين أو شراء رضائهم. لا اعتراض على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين وزيادة رواتبهم، بشرط أن يكون ذلك مبنياً على دراسات اقتصادية لمواكبة معدلات التضخم وتشجيع الإنتاجية، ولكن بعد هذه المنح والزيادات والكوادر والمكافآت كلها التي شهدناها خلال السنوات الثلاث الماضية، هل تطورت إنتاجية الموظف الكويتي؟ إن كان النفط نعمة، فإن قراءة التاريخ والاستفادة من تجاربنا وتجارب الغير نعمة أهم وأعلى قيمة، فلماذا نصرُّ على أن نحوِّل بأيدينا النعمة إلى نقمة؟، فإذا استمر أسلوب إدارة الدولة ومواردها على ما هو عليه فمن المحتمل قريباً أن يصبح المرض الهولندي كويتياً.Dessert«النفط سوف يجلب لنا الدمار»... قالها قبل ثلاثين سنة وزير الطاقة الفنزويلي الأسبق هوان بابلو بيريز ألفونسو، أحد مؤسسي منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك».