كانت الانتخابات التشريعية في 2005، ظاهرة سياسية عراقية مُلفتة، كما كانت ظاهرة سياسية عربية تاريخية، ورغم كل ما صاحبها من أخطاء ونواقص، كذلك، فإن الاستفتاء على الدستور العراقي عام 2005، كان نهجاً ديمقراطياً جديراً بالاهتمام.
-1-ليس من السهل على بلد كالعراق- ظل يرزح في العهد الخليفي والملكي والجمهوري، تحت أنظمة حكم غير ديمقراطية طيلة قرون طويلة، رغم أن الديمقراطية قد عُرفت وطُبِّقت في أثينا قبل الإسلام بمئات السنين- أن يصبح بلداً ديمقراطياً بين عشية وضحاها.فلا شك أن العراق بعد عام 2003، بدأ يتلمَّس طريقه إلى الديمقراطية، من خلال شعب لم يسبق له أن مارس الديمقراطية، وإن كان قد كتب عنها، وقرأ لها، وشهد عليها في أوروبا الغربية، من خلال البعثات العلمية العراقية، التي كانت تفِدُ إلى هناك. وظلت الديمقراطية حتى عام 2003، وقبل سقوط حكم الطاغية صدام، حلماً من الأحلام العراقية العزيزة المنال.ومن هنا، كانت الانتخابات التشريعية في 2005، ظاهرة سياسية عراقية مُلفتة، كما كانت ظاهرة سياسية عربية تاريخية، ورغم كل ما صاحبها من أخطاء ونواقص، كذلك، فإن الاستفتاء على الدستور العراقي عام 2005، كان نهجاً ديمقراطياً جديراً بالاهتمام، وكان مثار غضب ومعارضة من ميليشيات الإرهاب آنذاك، التي ضربت مراكز الاقتراع في ذلك الوقت، بالصواريخ ومدافع الهاون، لتعطيل مسيرة الديمقراطية التي اعتبرها زعيم «القاعدة» الزرقاوي في العراق، من أمور الكفار، التي لا يجوز للمسلمين الأخذ بها.-2-ولا شك، أن هذه المسيرة الديمقراطية العراقية، قد اعترضها الفساد المالي إلى جانب الإرهاب، وحاول هذان العاملان السلبيان، إعاقة التقدم الديمقراطي في العراق، ولكن العراقيين استطاعوا خلال السنوات الخمس الماضية بصبرهم، وتضحياتهم، وإيمانهم بالخلاص عن طريق الديمقراطية، أن يزيلوا الإرهاب عن طريق الديمقراطية، ويفتحوا للديمقراطية أبواباً واسعة. وبقي على العراقيين الآن، واجب محاربة داءٍ آخر خطير على الديمقراطية، وهو الفساد المالي المُستشري في الدولة العراقية في الماضي والحاضر.وفي هذا الصدد، يحاول العراقيون عن طريق «هيئة النزاهة العراقية»، و»منظمة الشفافية الدولية»، الحدَّ من انتشار واستفحال هذا المرض الخطير، فيما اتخذت الحكومة العراقية الحالية، خطوة جديدة نحو محاربة الفساد بإصدار قانون «إشهار الذمة المالية» الشفاف لكل المسؤولين العراقيين، من تنفيذيين، وتشريعيين، وقانونيين. وهذا يُعدُّ واحداً من قطوف الديمقراطية العراقية الدانية، التي يتمتع بها الشعب العراقي اليوم.-3-تبرز مظاهر الفساد في العراق، من خلال الرشوة، والمحسوبية، والمحاباة، والوساطة، فضلاً عن الابتزاز، والتزوير، والعمل في السوق السوداء، والتهريب باستخدام الصلاحيات الممنوحة للشخص، أو الاحتيال، أو استغلال الموقع الوظيفي، للتصرف بأموال الدولة بشكل سري، من غير وجه حق، أو تمرير السلع عبر منافذ السوق السوداء، أو تهريب الثروة النفطية.ويشير استبيان شعبي عراقي، ساهمت جريدة «المدى» العراقية في إنجازه، مع «مؤسسة تطوير الأجيال»، إلى أن أغلب الموظفين الذين يُتهمون بالفساد من الرجال، وأن معظمهم ينتمون إلى أحزاب لها تأثير في العملية السياسية، وكشف الاستبيان عن معلومات كثيرة منها، أن 69% من الفاسدين هم ممن عاشوا حياة فقيرة وبائسة، وأن 40% منهم ممن يفتقدون إلى ثقافة النزاهة، وأن 71% منهم ممن يمتلكون عقارات وأموالا خارج العراق، وأن 81% منهم لا يسجِّلون أموالهم وعقاراتهم بأسمائهم الشخصية، وأن 23% منهم موظفون جددٌ، والمفاجأة الكبرى التي جاء بها هذا الاستبيان أن 20% من الفاسدين، يتقاضون راتبين في الشهر الواحد!ومن الجدير بالذكر، أن معدلات الفساد المالي في العراق في عام 2008، انخفضت عما كانت عليه في عام 2003، حسب تقرير أعدته الأمم المتحدة، فقد وصلت نسبة الفساد في «سلطة الائتلاف» عام 2003 إلى 66%، بينما انخفضت في عام 2008 إلى 33% تقريباً.-4-قانون «إشهار الذمة المالية»، لا يمكن تطبيقه تطبيقاً سليماً، إلا في دول ذات أنظمة حكم ديمقراطية شفافة، فقد وضعت بعض الدول العربية قوانين لإشهار الذمة المالية للمسؤولين الرسميين، ولكن هذه القوانين ظلت حبراً على ورق، للزينة والزخرفة السياسية، دون تطبيق.ولكن العراق الديمقراطي الجديد، كان مختلفاً، فقد بدأ رئيس الوزراء المالكي بنفسه، حيث قام بتسليم رحيم العكيلي، رئيس «هيئة النزاهة العراقية» استمارته الخاصة، التي يكشف فيها المالكي عن ذمته المالية، ليصبح قدوة للآخرين من المسؤولين العراقيين على كل المستويات، وليكون المالكي بذلك، أول رئيس وزراء في تاريخ العراق الطويل، يكشف عن ذمته المالية. وتبع المالكي الذي كان القدوة في هذا الأمر، 17 وزيراً قاموا بالكشف عن ذممهم المالية خلال الشهرين الماضيين، من أصل 54 وزيراً، ومن هم بدرجة وزير، كما قال العكيلي، وهي إشارة جديرة بالاهتمام في المسيرة الديمقراطية العراقية لقوم يعقلون.المهم في هذا الأمر، أن خطوة المالكي تلك، ليست مكرُمة تطوعية رئاسية، يتكرّم بها المالكي على العراق الجديد، إنما هي تنفيذ لقانون، يُلزم كبار المسؤولين بالكشف عن ذممهم المالية، ولعل المهم في هذا الأمر كذلك، ليس وضع قانون لضرورة وواجب الكشف عن الذمم المالية، ولكن المهم تنفيذ وسريان هذا القانون على كل المسؤولين الحكوميين التنفيذيين، والتشريعيين، والقضائيين.-5-لقد سبقت العراق عدة بلدان عربية، بوضع قانون صارم، للكشف عن الذمم المالية للمسؤولين.ففي مصر، صدر في الستينيات، قانون «من أين لك هذا؟»، ولكنه لم يُطبَّق إلا لزمن قصير وعلى نطاق ضيق، وفي ظروف سياسية معينة، ثم أُوقف العمل به، وفي 2006 طالبت قوى المعارضة المصرية بمختلف ألوانها الحكومة بتطبيق وتفعيل هذا القانون، بشأن محاسبة الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة، فضلاً عن إلزامهم بتقديم إقرارات الذمة المالية، وبيان الممتلكات الشخصية، قبل تقلدهم مناصبهم، وأيضاً الكشف عن ثرواتهم عقب خروجهم من مناصبهم مباشرة، ولكن هذا القانون لم يُطبَّق حتى الآن.وفي اليمن، قال محمد المطري رئيس «قطاع الذمة المالية في الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد»: إن حالات إقرار الذمة المالية لكبار موظفي الدولة ارتفعت إلى 7100 حالة، من أصل عشرة آلاف حالة، من المقرر أن تشملهم المرحلة الأولى من الإقرار التي بدأت مطلع أكتوبر 2007، ورغم هذا مازال الفساد مستشرياً في اليمن، وعلى وتيرة مرتفعة جداً.أما في الأردن، فقد صدر «قانون إشهار الذمة المالية لعام 2006»، ولكن لم يُعمل به وظل حبراً على ورق، وظل الفساد يستشري في جسم الدولة الأردنية من رأسها حتى أخمص قدميها، وكذلك كانت الحال في معظم الدول العربية التي وضعت مثل هذا القانون، أو في الدول التي لم تضعه بعد. والسبب في كل التعطيل افتقاد هذه البلدان وغيرها من البلدان العربية إلى الديمقراطية، التي تفرض الشفافية بقوة القانون، فلا شفافية من دون الديمقراطية.* كاتب أردني
مقالات
قطوف الديمقراطية العراقية الدانية
25-03-2009