يمكن لك أن تتابع، إن شئت بشكل تفصيلي أو بنظرات سريعة مركزة، ما يطرحه المرشحون، سواء من القدماء المعروفين أو البارزين أو حتى من الجدد، وكذلك ما يصرح به الناشطون السياسيون ويكتبه الكتاب الصحافيون، وستجد أن الغالب الأغلب من هؤلاء جميعا لا يقول ولا يكتب إلا كلاماً عاماً، بل إنه في حقيقته نسخ مكررة من بعضه البعض، حتى إن حمل لمساتهم الخاصة وملامح شخصياتهم بطبيعة الحال، كأن يأتي بعضهم منخفض الصوت بارداً، أو عالي الصوت غاضباً، أو جاداً، أو هازلاً، أو خالطاً جدا بهزل وهزلا بجد، فلا تكاد تبين الخيط الأبيض من الأسود في حديثه!

Ad

يا سادتي إننا في أزمة كبرى... وهذا ليس كلاماً عاماً مرسلاً ككلام القوم أعلاه، بل سأشخص الداء فأقول إننا في أزمة تشخيص، ولست هنا كذلك أتلاعب بالألفاظ، ولست من مستعذبي موسيقى النص وتراقص الكلمات، بل أنا جاد كل الجد... لدينا أزمة في التشخيص وعدم قدرة على معرفة أسباب الخلل الضارب جذوره في واقعنا على وجه الدقة.

ما نسمعه ونقرؤه، وبشكل يومي متكرر، هو قول البعض إن الحكومة ضعيفة، وقول البعض الآخر إن المجلس تأزيمي وسيئ، وقول البعض الثالث الواضع في سلته من الصنفين من أن الحكومة ضعيفة والمجلس سيئ، لننتهي دون أن نقبض شيئاً، تماماً كما انتهى طبيب من زملائي مع تلك العجوز من مريضاته يوم جاءته تشكو، وكلّما سألها عن موقع الداء وأعراضه، أجابته باقتضاب: «يا دكتور فيني وجع، فيني بَلا... الله لا يبلاك»!

المختلفون عن هؤلاء، وهم قليل من الأولين والآخرين، ممن يحاولون الغوص في تفاصيل المشهد، والدخول في جزئياته (المايكرو)، لمحاصرة الجراثيم المسببة لهذا المرض، سرعان ما يجدون أنفسهم في غربة عمن حولهم، عن السلطة وعن القوى السياسية وعن مؤسسات المجتمع المدني وعن الشارع!

فلا السلطة أبدت اهتماماً بالتشخيص الدقيق لما يحيق بنا، ودليل ذلك تخبطها في قراراتها ومعالجاتها وخروجها بين الفينة والأخرى بشطحات بل ونطحات جعلتنا نشكك في حقيقة كونها تدرك أننا في مرض، ولا القوى السياسية أظهرت رغبة في مثل هذا العمل التشخيصي الموضوعي العميق، بل هي أسيرة، اليوم وكل يوم، لمجال الانتخابات المغناطيسي الجاذب حيث لا قيمة لمثل هذا الطرح والنشاط، ولا مؤسسات المجتمع المدني في غالبها أفاقت من سباتها، ولا شارع الناخبين في عمومه يفهم ولا حتى يريد أن يفهم مثل هذا الطرح!

الطريق كما أراه هو أن الكويت أمست اليوم بحاجة إلى أناس بقدرات خاصة مختلفة، فالظروف الاستثنائية تحتاج إلى أناس استثنائيين وإلى حلول استثنائية، أناس لا يخشون الغربة الفكرية ولا العزلة الشعورية، ولا يكترثون للميزان الشعبي في هذه المرحلة المختطفة لكل ما هو غير موضوعي ولا منطقي، ولكل ما هو بعيد كل البعد عن التفكير في الكويت أولا وقبل كل شيء!

نحن اليوم بحاجة إلى الكفاءات الحقيقية وكثير من هذه الكفاءات بعيدة عن «فلاشات» الإعلام وتحتاج إلى مَن يلتفت إليها، وهؤلاء هم القادرون حقاً على التشخيص السليم للأزمات كل في مجاله، والقادرون بعد ذلك على المعالجة إن توافر لهم الغطاء السياسي الحامي، وآه وألف آه من إجابة سؤال المليون الذي أطبق على مقالي الآن، السؤال السهل الممتنع، البسيط الصعب: وأين هو الغطاء السياسي الحامي؟!