يغوص البلد كل يوم أكثر فأكثر في الرمال، إن لم نقل في الوحل، وتتجمد أوصاله عن الحركة بما يهدد بسقوطه من جراء ممارسات لا مرجعية لها ولا سند. فلم يتبقَ هناك كلام ذو صلة بالمنطق أو العقل أو حتى واعز من ضمير وطني. فالأغلبية أصبح شعارها «اللي تكسب به... العب به»، حتى لو استدعى ذلك تحريف النصوص الدستورية واستدعاء الشريعة أحيانا والعادات والتقاليد لتوظيفها جميعاً في إدارة الشأن العام!
ولعل آخر الصرعات هو استحضار الفتاوى وجر إدارة الإفتاء إلى القضايا السياسية والاقتصادية الخلافية، ويحمل قصب السبق في هذا المجال وزير التجارة الحالي والنائب السابق أحمد باقر، فمن بين عشرات المواضيع التي كانت تدرسها اللجنة المالية البرلمانية عندما كان يترأسها، لم يستفتِ باقر علماء الدين إلا في مناسبات محدودة جداً وانتقائية، كان أهمها موضوع شراء قروض المواطنين الذي كان يعارضه بشدة، وحالياً يعيد الكرَّة رئيس اللجنة التشريعية النائب ناصر الدويلة- الذي أشهد له في قدرته على المناورة السياسية- داعياً إدارة الإفتاء لبحث مقترحات شراء مديونيات المواطنين. وفي الوقت نفسه تشتد حرب الفتاوى حول إزالة مساجد شبرات الكيربي بين إدارة الإفتاء ود. عجيل النشمي والمرجعيات الجعفرية التي يستشهد بها النائب صالح عاشور حول القضية نفسها... وفي إحدى الفتاوى، وهي للدكتور النشمي يقول: «إنه لا يجوز إزالة مسجد مؤقت حتى يتم توفير البديل له»... وهو ما يعني عملياً أن نسلم على القوانين واللوائح، وبالتالي فكل متجاوز وواضع شبرة كمسجد في دوار أو ساحة أو جزيرة في مفترق طرق كما رأينا في التحقيقات الصحافية والتلفزيونية، له الحق في أن يبقيها حتى يُبنى في محيطها مسجد بديل... أو أن نبني مسجداً لكل «فريج» من عشرة بيوت لأن سكانه لا يتحملون مشقة الانتقال إلى مسجد قطعتهم السكنية! ولكن المستغرب أن نواب التيار المدني، ولغاية في نفس يعقوب، لم يحرّكوا ساكناً ولم يعترضوا حتى بتصريح صحافي أو بيان مكتوب على ممارسة باقر سابقاً، وناصر الدويلة حالياً، بزج الشرع في قضية تشريع مدني مرجعيته دستورية فنية لا تتعلق بالأحوال الشخصية والمواريث. والأمر معروف الدوافع... فهم لهم رأي معارض لقضية القروض، وهو رأي وجيه، ولهم فيه مَن يؤيدهم من المواطنين. كما أن إعمال مقولة «اللي تكسب به... العب به» عند بعضهم- وحتى لا نقول «الغاية تبرر الوسيلة»- لا يمكن أن تكون على حساب المبدأ الذي يُمحى ويُنسخ ليصبح في ما بعد ضمن السوابق التي يتم تكريسها لتقبل بها الأغلبية دون تسجيل أدنى اعتراض لفظي يُسجل للتاريخ من أجل الحد من تلك الممارسات... وهنا يمكن التنازل عن المبدأ وتجزئته، وهو أخطر ما يسهم في الإسراع في تدمير ما تبقى من دروع حماية البلد وحقوق مواطنيه الدستورية المدنية. فالبلد في غيبوبة تجعله يتخبط، ومرجعيته الدستورية التي تحدد هويته المدنية الحديثة تحتضر وتتعرض للتدمير، وقرارها يُسحب لمصلحة اجتهادات شرعية مذهبية وجدلية لا تمتُّ للعصر بصلة، ومَن يُفترض أن يواجه ذلك ويتصدى له، يحسب أرباحه وخساراته في كل موضوع ويستحضر ويغيِّب مبادئه حسب الطلب! بينما يُنتهك الوطن ويُجر إلى هاوية التطرف والأصولية والمواجهات المذهبية التي ستُفضي لا محالة إلى هذا الدرب المهلك ما لم ينتبه الجميع.
مقالات
نواب اللي تكسب به... العب به
09-03-2009