الفرق بيننا وبين خراف العيد
«الريّس عمر حرب» هو فيلم في رأيي الشخصي رائع وعميق وجريء تبدو فيه الرمزية الفلسفية واضحة... حيث تدور أحداث الفيلم في كازينو يرمز للحياة... والبطل هو «خالد» أحد الموظفين في هذا الكازينو الذي يحاول إتقان مهنته باتخاذه مديره «صاحب الكازينو» قدوّة له... ليصبح منبوذا (بسبب عمله في الحرام) من عائلته وخطيبته وأصدقائه وبيته الذين طالما حلم بالعودة إليهم... هو يريد أن يعود، لكنه لا يعلم لماذا هو منساق في هذا العمل ولا يستطيع الفكاك منه؟... يكتشف البطل في النهاية أن كل الأحداث التي حصلت في الكازينو كانت مدبرة من مديره «خارق الإرادة» (الذي تحاك عنه الأساطير والخرافات في قدرته وإمكاناته اللامحدودة)... والذي كان يتحكم بموظفيه كما يشاء ويوهمهم أنهم يتحركون بإرادتهم لا بمشيئته. ويعجب المدير بخالد لأنه يراه مختلفا عن بقية الموظفين «القطيع»... ليفشل خالد في آخر الأمر وينساق كبقية القطيع لمديره الذي قال له: «أنا بلعب على جزء الخوف في كل بني آدم، عشان هو اتخلق خالد... بس بيموت».جعلني هذا الفيلم أتأمل في هذا العيد كيف تنساق الخراف إلى مسالخها بغير إرادتها بينما ننساق نحن، كما يصف غوستاف لوبون، إلى المسالخ ونحن نبتسم. فثقافة القطيع متجذرة فينا ومتأصلة حتى النخاع... إذ لا نقوى العيش من دونها فهي الأمان والاطمئنان... أو بالأحرى نخاف التمرد عليها... فالانضمام حماية وبقاء والخروج هلاك وفناء.
وسلوك القطيع هو عكس القيم الفردية التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات... لأن القطيع «أقلّ شكّاً وأكثر تسرُّعاً» على حد تعبير الجاحظ. فالفاشية نمت وترعرعت حين اضمحلت المسؤولية الفردية وتلاشت وذابت في ثقافة القطيع المدمرة... والتعصب هو أحد إفرازات هذه السيكولوجية التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير»... ووصفها باللاعقلانية والغوغائية وانعدام الوعي... حيث تغلب العاطفة على العقل وتذوب الهوية الشخصية بفعل مغناطيسية «القطيع»، فيقول لوبون: «وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم، فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها، وفى مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة. فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير».في الواقع، تمكنت ثقافة القطيع منا حين خجلنا أو خفنا أن نسأل... سواء أسئلة سطحية أو كونية، وفي عجزنا في البحث عن أجوبة لها... حين فشلنا في قول لماذا في البيت والمدرسة والمسجد؟... وحينما تقاعسنا عن فعل ما نحن مقتنعون به... حين نافقنا وأطعنا عن غير اقتناع... وعندما تخلينا عن مسؤولياتنا الفردية في البيت والمدرسة والجامعة والحياة العامة والسياسية، حين صوتنا للقبيلة والمؤدلجين والأعراف والتقاليد... وبسماحنا للراعي أن يهش بعصاه حين يشرد أحد القطيع، ليحمينا من «الذئب»!... وعندما سمحنا لأنفسنا بأن نكون أطفالا مهما كبرنا لتتجذر فينا الثقافة الأبوية الرعوية لنكون مجرد تابعين بل متسولين... إن شاء الراعي أعطانا... وإن شاء حرمنا... فلا حقوق لنا ولا واجبات... بل هي منحة وعطية... وحينما سمحنا للأفكار الخرافية و«الخروفية» بالسيطرة على عقولنا وتخديرها... ليتمكن الراعي من تزييف وعينا وتوجيه إرادتنا بإرادتنا.وعودة إلى الفيلم السابق ذكره، حيث يقول خالد في نهايته «وفضل حلم الرجوع للبيت ملازمني وإن كنت معرفتش أنفذو أبدا»... والبيت هنا في رأيي يجسد العقل الذي هجرناه وهاجرنا، سواء بوعي أو بغير وعي، إلى حظيرة القطيع. السؤال: متى نعود إليه.. لنعود لإنسانيتنا؟