في كتابه الأخير «أثر الفراشة»، وهو يوميات شعرية ونثرية، أصدرته دار رياض الريس في يناير 2008، قال محمود درويش في قصيدته «إجازة قصيرة»:

Ad

«صدقت أني مت يوم السبت

قلت علي أن أوصي بشيء ما

فلم أعثر على شيء

وقلت عليّ أن أدعو صديقاً ما

لأخبره بأني متّ

لكن لم أجد أحدا»

ومات محمود درويش، كما تنبأ، يوم السبت 9 أغسطس. وقد كان الموت يحاصر الشاعر ويطارده ويلقى بظلاله الثقيلة على معظم قصائده وكتاباته في السنوات الأخيرة. ففي الأمسية الشعرية التي جمعتنا معا أثناء انعقاد الدورة الأولى لمهرجان الشعر العربي بالقاهرة في فبراير 2007، ألقى درويش قصيدة يتحدث فيها عن ذلك الموت الذي يحوم حوله، ويحاصره ويتهيأ للانقضاض عليه.

إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء

فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت؟

أنظر في ساعة اليد

أشرب كأس عصير

وأقضم تفاحة

ثم ماذا؟

أمشط شعري

وأرمي القصيدة في سلة المهملات

وألبس أحدث قمصان إيطاليا

وأشيع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا

ثم أمشي... إلى المقبرة

درويش كان علماً فلسطينياً، ورمزا لقصيدة المقاومة، من قدمه الناقد الراحل رجاء النقاش قبل أربعين سنة في كتابه شعراء الأرض المحتلة. وقد تأسست نجوميته التي استحقها منذ ذلك التاريخ، خصوصا بعد خروجه من الأرض المحتلة في بداية السبعينيات إلى مصر ليعمل كاتبا في جريدة «الأهرام»، وليبدأ رحلته الإبداعية في الوجدان العربي باعتباره شاعر المقاومة الأبرز، وعلم فلسطين المنهوبة، وصوتها وحامل أوراق معاناتها وقضيتها إلى أطراف العالم. وفي الأعوام الأخيرة كان درويش يمشي على قلبه مسكونا بالهزائم والانهيارات العربية وبالتشظي والاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني، مدركا أن كل ما حلم به وكافح من أجله يتبخر ويهدر.

«على قلبي مشيت كأن قلبي

طريق أو رصيف أو هواء

فقال القلب أتعبني التماهي

مع الأشياء وانكسر الفضاء

وأتعبني سؤالك أين نمضي

ولا أرض هناك ولا سماء»

بدأت رحلة درويش الشعرية عام 1964 بديوانه الأول «أوراق الزيتون» الذي برز فيه صوت الشاعر المتمرد والثائر والإرهاصات الأولى لقصيدة المقاومة التي أنضجتها الخبرة بعد ذلك، وكرَّستها دواوين درويش العديدة، وهي قصيدة تختلف كثيرا عن القصيدة السياسية التي راجت بعد هزيمة يونيو 1967، والتي انشغلت بهجاء حكامنا ونظمنا وجيوشنا في ذلك الوقت. فقد كان الهم الأول لقصيدة المقاومة هو التشبث بالأرض وبالتاريخ والذاكرة والتراث الشعبي الفلسطيني لمقاومة المحو والإبادة ومحاولات طمس الهوية الفلسطينية.

«في البال أغنية

يا أخت عن بلدي

نامي لأحفرها

وشماً على جسدي»

بين عامي 1964 و2008 صدرت لدرويش أكثر من عشرين مجموعة شعرية، بالإضافة إلى كتاباته النثرية الأخرى، ومن أهم مجموعاته «جدارية- سرير الغريبة- لا تعتذر عما فعلت- لماذا تركت الحصان وحيدا؟- أحد عشر كوكباً- مديح الظل العالي- أعراس- محاولة رقم7 - ورد أقل- أرى ما أريد».

والمتابع لهذه الرحلة الإبداعية التي أغنت الشعر العربي وساهمت في تجديده وشحنه بالتوهج والحيوية سيكتشف تحولات الشاعر وتمرده على ذاته وقصيدته وسعيه الدائم إلى التطوير والتجديد وكسب أرض إبداعية جديدة، خصوصا بعد اتساع تجربته وتراكم خبراته وثقافاته وانشغاله بالهم الإنساني والوجودي ودائرة قرائه. ففي دواوينه الأولى كان درويش مهموما كشاعر مقاومة بجماليات الإلقاء وبالتواصل مع القارئ والسعى إلى تحريضه بلغة بسيطة تغلب عليها الخطابية والمباشرة:

«سجل... أنا عربي

انا اسم بلا لقب

أبي من أسرة المحراث

لا من سادة نُجُُب

وجدي كان فلاحاً

بلا حسب ولا نسب»

بهذه القصائد البسيطة والمباشرة قدم درويش نفسه إلى القارئ ودفعه الترحيب به والالتفاف حوله إلى التشبث بالمباشرة في دواوينه الأولى ومحاربة أشكال الغموض كلها. فالقصيدة الغامضة هي قصيدة فاشلة عاجزة عن الوصول إلى القارئ وأداء دورها التحريضي والتنويري.

«قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوتِ

إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ

وإن لم يفهم البُسطا معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن للصمت»

لكن هذا الدور التحريضي للشعر والشاعر تراجع في الدواوين الأخيرة. وانشغل درويش كشاعر أصيل بالقيمة الفنية وبقضايا التجريب والتجديد والتمرد على الذات، ومن ثم تراجعت جماليات الإلقاء والمباشرة، والحرص على الجمل القصيرة والقافية، فأبدع الشاعر قصائده الطويلة والملحمية، وانشغل بالتأمل وإعادة قراءة الواقع والغوص في قضايا الانسان وهمومه وتاريخه، ومن ثم توهجت لغته وعباراته، وتعددت قصائده الطويلة والملحمية والقصيرة وقصيدة الومضة، فاتُّهم بالانقلاب على ذاته والابتعاد عن محاور إبداعه، خصوصاً قصيدة المقاومة التي كان له الدور الأكبر في تأسيسها وتكريسها.

«يغتالني النقاد أحيانا

يريدون القصيدة ذاتها

والاستعارة ذاتها

فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً

قالوا: لقد خان الطريق

يغتالني النقاد أحيانا

وأنجو من قراءتهم

وأشكرهم على سوء التفاهم

ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة»

النجومية عبء كبير على المبدعين، خصوصاً في العالم العربي، الذي لا يعترف للمبدع بحقه في الاختلاف والاستقلال وممارسة حريته، والذي تسعى نظمه وحكامه دائما إلى تأميم المبدع أو مصادرته أو طرده. ومحمود درويش كان نجما لامعا وكبيرا، وكان عليه أن يرضى الجميع؛ الشعراء والنقاد والحكام والحكومات العربية والأجنبية. وأظنه كان في الأعوام الأخيرة يعاني بسبب عجزه عن ممارسة حريته واستقلاله كشاعر، واضطراره الدائم إلى الصمت والحياة في المنافي، معبأ بذلك الاغتراب الهائل الذي يطل علينا من قصائده.

«يرنو إلى أعلى

فيبصر نجمة ترنو إليه

يرنو إلى الوادي فيبصر قبره يرنو إليه

يرنو إلى امرأة تعذبه وتعجبهُ ولا ترنو إليه

يرنو إلى مرآته فيرى غريباً مثله يرنو إليه»

هذا الغريب النجم، وأحد أبرز شعرائنا في نصف القرن الأخير، فاز بالإضافة إلى الجوائز المعروفة، بأهم وأكبر جائزة يحصل عليها الشاعر، وهي التفاف القراء حول قصيدته وتقديرهم لمنجزه الشعري ورحلته الشعرية.

* كاتب وشاعر مصري