حديقة الإنسان: درس من بيرل باك
![أحمد مطر](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1461781082063313100/1461781089000/1280x960.jpg)
وتتعلق «فاتينيتسا»، بدفع من والديها الطماعين، بثري لبناني يصطحبهم، ويا للمصادفة، إلى الملهى ذاته في الليلة ذاتها، فيسمع حسن المنكود من الجالسين قرب طاولته معلومات غريبة عن تلك النجمة الجالسة بأبهة في صدر الملهى، إذ يؤكد أحدهم أن فاتينيتسا كانت متزوجة من أمير، فيما يسفّه آخر تلك المعلومة قائلا إنها كانت متزوجة من رئيس عصابة لسرقة الدراجات، وعلى الرغم من أن حسن كان، طول الوقت، يقصف زوجته الهاجرة وحاشيتها بالتعليقات الساخرة الساخنة التي كادت تقلب الملهى إلى ساحة حرب، فإن أحدا من أصحاب المعلومات لم يسأله عما يملكه هو أيضا من معلومات عن النجمة!والواقع أن حال النقد في كل زمان ومكان لا يخرج، إلا نادرا، عن فحوى هذه الحكاية البسيطة المضحكة، إذ اعتاد النقاد على التقافز من حول حسن وابور الكاز، مستعرضين أغرب الاحتمالات عن حقيقة قصته، فمرة ينصبونه أميرا، ومرة يجعلونه رئيس عصابة، دون أن يخطر ببالهم، ولو خطأ، أن يسألوه عن رأيه في الموضوع الذي هو صاحبه، برغم قربه الشديد منهم، مما يعني أن نظرية «موت المؤلف» ليست جديدة كما نعتقد بل هي أزلية، كما أنها ليست وليدة الغرب وحده، بل هي وليدة كل المجتمعات الإنسانية!من مثل هذا شكا الروائي الكولومبي «غارثيا ماركيز» في مقالة له قال فيها إنه أصبح متأكدا من وجود «ماركيز» آخر يتجول في هذا العالم ويحاضر ويصرح نيابة عنه، دون اعتبار لرأيه، وذلك في إشارة إلى ما تنشره بعض الصحف لكتاب أو نقاد أو صحافيين، يستعرضون محاضرات لم يكتبها ولم يلقها، أو أقوالا لم يصرح بها ولم تخطر في باله على الإطلاق. أي أن موت المؤلف «ماركيز» في هذه الحالة يتقمص طريقة واقعيته السحرية، حيث إنهم لا يميتونه بالقتل بل بالولادة، وذلك باختلاق ماركيز آخر!والأمر نفسه يجري للمبدعين الآخرين على صور متفاوتة، فحتى لو تيسر للنقاد أن يقابلوهم يوميا على مائدة الإفطار، فإنهم يا يأبون بسؤالهم عما أرادوه حقا في أيما تفصيل من تفاصيل نصوصهم، بل يفضلون على الدوام أن ينساقوا وراء التحجيم وضرب الرمل، من أجل تلبيس الحقائق الواضحة أمامهم، ثيابا وهمية من نسج رغباتهم الشخصية!الكاتبة الأميركية الرائعة «بيرل باك» كانت قد استثمرت تجربة عيشها المديد في الصين ما قبل الثورة، في كتب عديدة كان أبرزها روايتها الشهيرة «الأرض الطيبة» عام 1931. وفيما كانت الرواية، كما يقول «كارل فان دورين» في مقدمتها، «نموذجا لأبسط أنواع القصة القويمة التي تقول ما تعني وتعني ما تقول» فإن الأهواء الحزبية أو الفكرية أو الفئوية أو غيرها، قد جعلتها فريسة لمختلف أنواع الضواري النقدية. يقول «فان دورين»: «أذكر أني كنت جالسا إلى جانب السيدة «باك» في مأدبة أقامتها على شرفها، في مدينة نيويورك، إحدى الجمعيات التي تحب أن ترى في آسيا لغزا من الألغاز. فتحدث أحد الخطباء عن الصوفية الصينية في «الأرض الطيبة»، فمالت السيدة باك على أذني واعترضت قائلة إن الصينيين ليسوا صوفيين وإنهم تركوا التصوف لشعوب آسيوية أخرى.وأطرى خطيب آخر أسلوبها التوراتي، فهمست في أذني قائلة إنه ليس في أسلوبها شيء من التوراتية، وإن كل ما فعلته هو أنها نسجت روايتها على منوال القصة الصينية.واعتبر خطيب ثالث أن من المفروغ منه أن السيدة باك قد اختارت الصين مسرحا لروايتها والصينيين أبطالا لها، عامدة متعمدة، بسبب من الفرصة التي يتيحها لها هذا الاختيار لتعريف البلاد الصينية والشعب الصيني إلى أبناء الجانب الآخر من الكرة الأرضية.حتى إذا نهضت «باك» آخر الأمر للرد على هذه المدائح الخاطئة، أعلنت أنها لم ترو في كتابها هذا قصة أسرة صينية إلا لأنها عرفت الحياة الصينية أحسن مما عرفت أي شيء آخر، ولأنها لم تكن تجيد غير ذلك»!أي أن السيدة «باك» التي رفضت أن تؤكل نيئة في مأدبة تكريمها، قد قررت ببساطة «أن الذي حارت البرية فيه.. حيوان مستحدث من جماد» كما قال عمنا المعري!بمعنى آخر إن بيرل باك قد رفعت حذاءها «المجازي» ونزلت به تأديبا على رؤوس أولئك المتحذلقين الذين لم يفهموا النص الواضح والمباشر، ثم لم يتكلفوا أن يسألوها عن الشيء الذي تعرفه أكثر مما يعرفونه، قبل أن يقيموا مأدبة هرائهم.ولو تيسر لجميع المؤلفين أن يرفعوا أحذيتهم «الحقيقية» في وجوه سادة الغيبوبة المتصنعين العلم بالغيب، لازدهرت صناعة الأحذية أيما ازدهار، ولأمكن للعالم أن يشهد، بسعادة بالغة، ظاهرة موت الناقد!* شاعر عراقي